رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


التأمل.. «رغم أنفك»

أن تكون موظفا في الإدارة الوسطى في شركة عملاقة يعني أنك في ساعات الصباح الأولى في غابة اتصالية.

أنت ترد على بريد إلكتروني، وتكتب مسودة أخرى، وتراجع أجندة اجتماع، وذهنك مع مناسبة رسمية للقطاع في المساء، ترد على موظف، وتوضح نقطة لمدير في بيئة عمل مفتوحة وسريعة الإيقاع.
تهجس في إمكانية الغداء مع أطفالك في "البريك" من عدمها؟، يخطر لك موعد طفلتك غدا في عيادة الأسنان، تبعد عن ناظريك هاتفك الجوال المفتوح على "واتساب" مجموعة العمل، وهناك إشارات أخرى لرسائل مختلفة.
كل هذا مع أفكارك الشخصية عن أشياء خاصة، ومعه إحساس أن الساعة "تتك" مسرعة رغم أنك بت تعرف الوقت من شاشة جوالك أو حاسبك الآلي.
يظن أو يزعم الإنسان أن جدول أعماله لا يمكن أن يتغير، أو لا يجب أن يتغير حتى يأتيه ما هو "يقين" أن الدنيا أصغر ما يمكن، وأن الأشياء، كل الأشياء تفقد أهميتها فجأة، وأن للحياة دروسها ورسائلها، التي تقدمها دوما عبر عنوانها الرئيس المتواري... الموت.
مررت بذلك، توفي "العم" سعد الهزاع، الحبيب ووالد الأحبة إخواني وأخواتي في "حلاوة اللبن"، زوج غالية رحلت، وصديق الجميع ممن عاشروه لعشرات السنين.
هكذا يدق ناقوس الحزن، ويصبح كل ما حولك لوحات تأمل، تتلاشى الشاشات، وتتصاغر الأجندات، ولا ترى من بين الدموع إلا خيال دموع أحبته، ومن سيشتاقون إلى بسمته.
تتأمل في الرجل النادر وهو يرحل بهدوء، تسترجع تواريخ عائلية وشخصية لأحد أوائل رجالات سلاح الجو السعودي، بعثته إلى أمريكا، وذكريات الطائف وجدة، وبسمة لم تفارق محياه عسكريا ومتقاعدا.
ناداه آلاف الطلبة والطالبات والمعلمين والمعلمات بكلمة "عم سعد" عندما اختار لفترة أن يكون عمله متقاعدا صاحب مكتبة لبضعة أعوام.. أجمل ما يمكن أن يكون الإنسان صاحبه أو يعمل فيه.
كان يؤمن بالثقافة والاطلاع والحرية الشخصية، يسافر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويقيم هادئا "بيتوتيا" طالما الأولاد، ولاحقا الأحفاد يحومون حول إنسان لا يمل الحديث والنقاش والإجابة على كل الأسئلة.
تتأمل في ركضك بين الحجوزات والشوارع وزحام الرياض في ذروة الظهيرة، تلاحقك الساعة وأنت تجاهد للحاق بطائرة بالكاد وجدت فيها مكانا، تتلاحق أنفاسك وضربات قلبك، تتأمل سريعا كل ما حولك وما يمر بك حتى تربط حزام مقعدك، فتجد تأملاتك ودموعك فسحة مؤقتة، لأحزان دائمة، ومعرفتك أنك ستعود كما بقية البشر إلى دنياك حتى تأتيك "تأملاتك" المقبلة.
تأمل الحياة من حين لآخر بطوعك.. قبل أن تجعلك تفعل.. "رغم أنفك".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي