عوامل تضخم الشركات
يشهد العصر الحالي تضخما غير مسبوق في التاريخ لحجم وثروات الشركات العالمية الكبرى وعدد عمالتها، فهناك 12 مصرفا عالميا تزيد أصول كل واحد منها على تريليوني دولار. ويأتي على رأس المصارف العالمية المصرف الصناعي والتجاري الصيني الذي تزيد أصوله على أربعة تريليونات دولار ويعمل فيه نحو 450 ألف شخص. وتزيد أصول هذا المصرف على الناتج المحلي السنوي لألمانيا رابع أكبر اقتصاد في العالم. وتوظف أكبر الشركات العالمية في الإيرادات وهي شركة وولمارت أكثر من مليوني شخص، ما يجعلها تتفوق على 80 دولة وتحل في المركز الـ121 عالميا بين دول العالم في حجم القوى العاملة. وعموما لا يخفى على أحد مدى نفوذ وقوة الشركات العالمية الكبرى، حيث يتمتع عديد منها بموارد وتقنيات وشبكات تواصل واسعة النطاق ومؤثرة تأثيرا يفوق كثيرا من دول العالم.
بدأت الأغلبية الساحقة من الشركات الكبيرة كمنشآت صغيرة ثم كبرت مع الوقت حتى أصبحت شركات ضخمة. وأتى نمو وتضخم الشركات نتيجة لعديد من العوامل أبرزها نهضة الاقتصادات العالمية الكبرى. حيث يقود نمو وكبر الاقتصادات المحلية إلى زيادة كبيرة في الطلب وتوفير بيئة مساعدة لنمو الشركات، خصوصا إذا كانت هناك حماية مؤقتة في أسواق داخلية كبيرة حتى تنضج الشركات المحلية. ولو نظرنا إلى قائمة الشركات العالمية الكبرى لوجدناها تنتمي للدول الاقتصادية الكبرى، حيث تحل الولايات المتحدة والصين في المقدمة بفارق كبير عن اليابان ثالث اقتصاد عالمي. بعد ذلك تأتي الدول المتقدمة الأخرى الكبرى كفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية.
قاد نمو التجارة الدولية في السلع والخدمات وانفتاح الأسواق العالمية إلى ازدياد المنافسة بين الدول والمنتجين، ما ولد ما يسمى التدمير الخلاق لكثير من الشركات وأبقى على الشركات الأكثر كفاءة التي تعاظمت سيطرتها على الأسواق العالمية. لعبت التغيرات التقنية المتسارعة دورا كبيرا في تعاظم الشركات الأكثر إبداعا واختراعا. وساعدت أنظمة حماية الملكية الفكرية على تمتع الشركات المالكة للبراءات بقوى احتكارية مكنتها من تحقيق أرباح اقتصادية تفوق كثيرا تكاليف الإنتاج. والتقنية لا تقتصر على تطوير سلع أو خدمات متطورة أو جديدة، وإنما تشمل تطوير أساليب الإدارة ومعايير وطرق إنتاج أو تسويق سلع وخدمات قائمة تمكن الشركات من خفض التكاليف أو زيادة الإنتاجية. كما ساعدت الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف التي فتحت الأسواق العالمية على الاستثمار الأجنبي، والتسهيلات والتشجيع الممنوح من دول العالم في انتشار سلاسل الإنتاج وفروع الشركات في كل أرجاء العالم. ومكنت سلاسل الإنتاج الشركات من تعظيم استغلال مزايا الدول النسبية والنفاذ إلى الأسواق الداخلية وتعظيم الأرباح.
قادت المنافسة الشديدة بين المنتجين للحصول على حصص متزايدة من الأسواق المحلية والعالمية إلى استخدام شتى الوسائل المتاحة قانونيا لخفض التكاليف. وتستغل معظم الشركات اقتصادات الحجم، وسعت قدر استطاعتها للاستثمار فيها. وتقوم فكرة اقتصادات الحجم على أساس خفض التكاليف من خلال زيادة حجم الإنتاج، ما يرفع المبيعات والأرباح ويسمح بخفض الأسعار وزيادة تنافسية الشركات. ويزداد تخصص العمالة مع نمو الإنتاج ما يرفع إنتاجية العامل. أما في العصر الحديث فإن الميكنة والأتمتة تأتيان مع زيادة الإنتاج ما يرفع إنتاجية العمالة البشرية، ورؤوس الأموال. كما تتضخم الشركات باستخدام اقتصادات النطاق أو المدى حيث تنخفض بموجبها تكاليف الإنتاج مع تنوع وتعدد المنتجات. وترتبط معظم المنتجات مع بعضهما بعضا ما يعزز أرباح الشركات وحجمها عند زيادة عدد منتجاتها. ويرتفع تركز الصناعات ونمو حجمها في كثير من القطاعات، كقطاعات الطاقة، والمواد الأولية، والمصارف، والاتصالات، والبتروكيماويات والكيماويات بشكل عام. من جهة أخرى يسر منح امتيازات "احتكار" إنتاج المواد الأولية وإنتاج وتوزيع الطاقة والاتصالات في تضخم الشركات المستفيدة خصوصا النفطية منها.
تتميز الشركات الكبيرة عن الصغيرة بتوفير فرص عمل أعلى أجرا، وأكثر استخداما للتقنية والمهارات، وأكثر استقرارا. وقد أسهمت الشركات الكبيرة في خفض تكاليف كثير من السلع المنتجة كالإلكترونيات وبعض الخدمات، كما أسهمت في الحفاظ على نوعية سلع وخدمات موحدة عبر نطاق جغرافي كبير. وفي الوقت نفسه توجه عديد من الاتهامات للشركات العالمية الكبرى كممارسة الاحتكار، والإساءة إلى البيئة، وسوء استغلال العمالة والموارد. وقد تكون هذه الاتهامات حقيقية في بعض حالات الشركات، لكنها لا تعني ممارسة كل الشركات لها.
إضافة إلى ذلك هناك عديد من العوامل التي تمكن الشركات من النمو إلى مستويات كبرى كالتحسين المستمر للمنتجات وأساليب الإنتاج مقارنة بالمنافسين، وكذلك الحرص على إرضاء المستهلك وتسخير كل الإمكانات لهذا الهدف. ويسهم اكتساب ثقة المستهلكين ومزودي المدخلات في زيادة الولاء لمنتجات الشركات وتزويدها بمستلزمات الإنتاج بأقل التكاليف، والحد من قدرة المنافسين على اجتذاب مواردها أو اقتطاع جزء من حصصها السوقية. ويساعد الشركات على التوسع السريع نوع السلع والخدمات المختارة فعند اختيار منتجات يزداد عليها الطلب بسرعة بتوسع عبر العالم فإن ذلك يساعد على تضخم الشركات ونموها. ولتسريع نمو الشركات لا بد من توافر العوامل الأساسية اللازمة لنموها وأهمها اليد العاملة الماهرة والإدارة الجيدة ورؤوس الأموال والأنظمة والتشريعات الحكومية الميسرة للنمو.