الميزانية وملامح من الكفاءة والتمكين
قبل بضعة أعوام كانت عبارات "كفاءة الإنفاق" و"تمكين القطاع الخاص" للمتابع غير المتخصص مجرد طموحات مطروحة لا تعكس واقعا قابلا للمشاهدة والملاحظة؛ لكن خلف الكواليس هناك عشرات الفرق التي تعمل ليل نهار لتنقل هذه الطموحات إلى أرض الواقع. اليوم، وعلى الرغم من أننا ما زلنا في منتصف الطريق، إلا أننا نستطيع مشاهدة هذا الواقع بالأرقام. الإنجازات معلنة والتحديات موضحة بكل واقعية وجدية، وهذا ما اتفقت عليه "الرؤية" حين أكدت على انتهاج الشفافية والحوكمة الرشيدة. إعلان الميزانية بتفاصيلها وأسلوب عرضها البارحة الأولى يعكس الشفافية وتنفيذها يعكس الحوكمة، والجميع اليوم يشارك في بناء هذه الطموحات على أرض الواقع، سواء كان خلفها تصميم ومتابعة أو منتج فاعل في اقتصادها أو مستفيد من برامجها.
سأعيد قراءة بعض الملامح المختارة التي توضح ما تم تنفيذه بخصوص كفاءة الإنفاق وتمكين القطاع الخاص. قبل ذلك، أشير إلى أن ميزانية 2020 تبدو أنها تؤكد ما يتم إنجازه في 2019، وتتجاوز بعض التحديات التي أتبعت عملية الإصلاح البادئة في 2016. يبلغ إجمالي الإيرادات في ميزانية 2020، 833 مليار ريال، يقابلها 1.020 تيرليون من النفقات بإجمالي عجز يصل إلى 187 مليارا. تعكس هذه الأرقام الإجمالية استمرار سياسة الإنفاق الموجهة وفق برامج كفاءة الإنفاق استمرارا لما تم ويتم إنفاقه في عامي 2018 و2019. وتوضح الميزانية بالنظر إلى القطاعات ومشاريعها مواطن التركيز وآلية اتفاقها مع السياسات المذكورة، بالوصف والأرقام.
تؤكد الميزانية في الجداول والرسوم البيانية وبالإفصاح النصي كذلك، أن هناك من التحديات ما هو قائم ولا يزال تحت المعالجة، وهناك ما تمت معالجته، وهناك ما هو جديد كذلك. وبرأيي أن من راهن على صعوبة معالجة التحديات خلال هذه الفترات القصيرة لم ينجح في رهانه، فهناك كثير من المؤشرات الإيجابية التي تؤكد أن الإصلاحات الهيكلية بدأت تؤتي ثمارها، وبأن التغيير المستمر يتجه بإذن الله في مساره التصاعدي الإيجابي دون أزمات تبعية أو تأثيرات غير محسوبة. من هذه المؤشرات ارتفاع الناتج المحلي غير النفطي خلال النصف الأول بـ1.1 في المائة وخلال الربع الثاني نحو 2.9 في المائة وهذا أعلى معدل ربعي منذ عام 2015. حقق كذلك قطاع التشييد والبناء المهم جدا والمرتبط بتجديد البنية التحتية ونشاط برامج الإسكان معدلات إيجابية أيضا للمرة الأولى منذ عام 2015. ولا يخفى ما حققه الائتمان المصرفي للقطاع الخاص من نمو عكس تعافي النشاط الاقتصادي، إذ حقق نسبة 4.2 في المائة حتى تشرين الأول (أكتوبر) 2019 مقارنة بـ - 1.6 في المائة في عام 2017. وارتفعت تأكيدا لذلك عدة مؤشرات مهمة مثل مؤشر مديري المشتريات ومستوى ثقة الشركات في مستقبل الأداء الاقتصادي والقروض العقارية والاستهلاك وتقدم المملكة في ترتيب مراكز التنافسية واعتماد تقنيات الاتصالات المحسنة للنطاق العريض والقدرة على الابتكار. وأنا متأكد كذلك من نمو عدد كبير من المؤشرات التي لا تزال في مراحل مبكرة نسبة لحجم الأداء الاقتصادي لكنها تنمو بشكل إيجابي تصاعدي مثل مشاريع التقنية المالية وتحسن بيئة الأعمال الناشئة ومعدل انتشار برامج الدعم والاحتضان.
تمثل 2020 عام استقرار الإيرادات الضريبية الذي مر بمرحلتين مهمتين في الفترة الماضية، إذا يمثل عام 2018 عام التحول الجذري في طبيعة ومكونات وحجم الإيرادات الضريبية بتدشين ضريبة القيمة المضافة، إذ نمو الإيرادات الضريبية من عام 2017 وحتى 2019 ما يصل إلى 131.9 في المائة. ويدخل خلال هذه الفترة كذلك تأثير بعض التسويات الضريبية التي خضعت لها البنوك وشركات الاتصالات التي تحصل لمرة واحدة فقط، إضافة إلى تدشين اللائحة الزكوية الجديدة وزيادة أعداد المكلفين، انعكاسا لتحسن أوضاع تسجيل الشركات ومحاربة التستر وتطور إجراءات الضبط والتحصيل الضريبية التي تعمل بها البرامج الضريبية. عكس النمو في ضرائب السلع والخدمات خلال 2019 الذي وصل 22.2 في المائة مقارنة بالعام السابق تحسن النشاط الاقتصادي. وبإيرادات متوقعة بقيمة 200 مليار في 2020 تتراجع إيرادات الضرائب بـ1.2 في المائة وهذا يعكس استقرار التحصيل الضريبي من برامجه المتنوعة والانتهاء أو التقليل من التسويات المؤقتة التي نفذت في 2019. في الأعوام المقبلة، ستصبح الإيرادات الضريبية مؤشرا جيدا لنمو النشاط الاقتصادي ورافدا مستقرا للميزانية العامة.
من خلال قراءة ملف الميزانية نجد أن هناك مؤشرين نوعيين يمثلان تنفيذ سياسة كفاءة الإنفاق وتمكين القطاع الخاص، الأول، برامج الحماية الاجتماعية التي تعكس ما يمكن أن يطلق عليه الدعم الذكي الذي يعيد توجيه الدعم بطرق أكثر كفاءة تضمن انعكاس الدعم لتحسين جودة الحياة ورفع مستوى المعيشة، سواء كان ذلك عن طريق استمرار بعض البرامج مثل حساب المواطن وبدل غلاء المعيشة أو بعض البرامج الأخرى غير المباشرة. والمؤشر الثاني، إعادة تمكين القطاع الخاص بشكل أفضل كفاءة يتمثل في تحسين مشاركة القطاع الخاص في تمويل وتشغيل المشاريع التي كانت تنفذها الحكومة في الصحة والتعليم والمياه، مما أسهم في مشاركة المرأة العاملة وفتح أبواب إضافية في آلية تفاعل القطاع الخاص مع الفرص الجديدة.
ختاما، أشير إلى أهم التحديات المالية والاقتصادية التي ذكرها مستند الميزانية، وأولها تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي الذي يشهد توقعات متزايدة بقرب الركود البطيء الذي قد يستمر لعدة أعوام. والثاني، تقلبات أسعار النفط التي يصعب التنبؤ بها وما زالت مؤثرة بشكل كبير على قدرة إدارة الإيرادات وتخطيطها. والثالث، معدلات نمو الناتج المحلي غير النفطي الذي تسعى معظم البرامج الاقتصادية النشطة إلى تحقيقه بشكل متزن ومستمر، لأن بدوره يقلل من الاعتماد على الإيرادات النفطية ويوفر فرص عمل جديدة ودائمة للمواطنين، ويسهم في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي تسعى إليها برامج الميزانية العامة. إجمالا، لا يمكن تجاهل المؤشرات الإيجابية المذكورة أعلاه وقدرتها على التخفيف من حدة التحديات المعروفة التي تتم معالجتها، وبالثبات على ذلك ومشاركة فرق العمل في مختلف الجهات، إضافة إلى قدرة المواطن على التعاطي مع اقتصاده كوحدة منتجة وفاعلة سيتم تجاوز هذه التحديات في الوقت المناسب بإذن الله.