ما بعد التلفزيون .. نحو منصات البث الرقمي
تعود البدايات الأولى لتطوير الأبحاث بشأن التلفزيون télévision -التي تنقسم إلى كلمتين؛ tel التي تعني مكانا بعيدا، وvision ومعناها الرؤية؛ أي نقل الصورة المرئية من بعيد- إلى الربع الأخير من القرن الـ19، بداية مع الألماني بول نيبكو الذي اخترع عام 1884 قرصا ميكانيكيا دوارا بفتحات صغيرة منظمة في شكل حلزوني، يتسرب الضوء الذي يسلط عليها من الفتحات فيعطي إحساسا سريعا بحركة الصور المسجلة على هذا القرص، ثم جاء مواطنه كارل فارديناند بروان، فاخترع "الأسطوانة الكاتوديكية" 1892، تلاه الفرنسي إدوارد بيلين عام 1921 بمحاولاته تغيير نقل الصورة عبر موجات ضوئية، لينجح أخيرا جون لوجي بيرد في نقل أولى الصور التلفزيونية في 27 كانون الثاني (يناير) عام 1926.
يملك أغلب الناس تلفزيونا في منازلهم، لكن أقلية منهم تعلم أن الأمم المتحدة اختارت 21 تشرين الثاني (نوفمبر) يوما عالميا للاحتفاء بهذه الأداة، بموجب القرار رقم 205/51 عام 1996، الاحتفال بالتلفزيون هذا اليوم ليس احتفاء بهذه الأداة لذاتها، بقدر ما هو احتفاء بوسيلة تخدم في إيصال الكثير إلى العالم، بعد أن تعدت أجهزة التلفزيون في العالم ذلك العام عتبة المليار جهاز.
عالميا، كانت بداية التلفزيون الرسمي مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC عام 1929، ودشنت الهيئة ذاتها خدمة البث التلفزيوني المنتظم بعد 71 عاما، وكان لها قصب السبق أيضا في تقديم التصوير والبث الحي من خارج الاستوديو المغلق. وعرفت فرنسا البث التلفزيوني لأول مرة عام 1935 من برج إيفل، وقدمت أول نشرة إخبارية في التلفزيون الفرنسي عام 1949. أما في كندا، فقد انحصر البث التلفزيوني الذي انطلق عام 1952 في مدة تقدر بنحو 18 ساعة أسبوعيا.
عربيا، يشاع أن أول ظهور للتلفزيون كان في مصر، وهذا غير صحيح لأن بداية التلفزيون الرسمي كانت في كل من العراق والمغرب عام 1954. وتجدر الإشارة، في سياق التأريخ، إلى أن أول بث تلفزيوني في العالم العربي يعود إلى عام 1947 في المملكة العربية السعودية، عندما أقدمت شركة نفط أرامكو على بناء محطة تلفزيونية في مدينة الظهران، لكن كثيرين لا يأخذون به، لارتباطه بالقطاع الخاص وليس بالمؤسسات الحكومية.
يعد عقد الخمسينيات بمنزلة الحقبة الذهبية للتلفزيون على الصعيد العالمي، حيث اشتدت المنافسة بين شركات التلفزيون الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية NBC، CBS، ABC خاصة بعد دخول التلفزيون عالم السياسة، بإقدام شركة CBS على تغطية حملات الانتخابات الرئاسية لعام 1952، بين دوايت أيزنهاور وهاري ترومان، ثم التدخل للتأثير في الرأي العام الأمريكي، لترجيح كفة جون كيندي ضد منافسه ريتشارد نيكسون في انتخابات 1960.
يقسم الفرنسي جون لوي ميسيكا تاريخ التلفزيون، بحسب التطورات التي شهدها طيلة العقود التسعة التي مضت على اختراعه، إلى ثلاث حقب أساسية، أولا, حقبة التلفزيون الكلاسيكي التي كانت بمنزلة الفترة الذهبية للتلفزيون؛ فقد كان وضع المشاهد أمام الشاشة، في هذه الحقبة أشبه بالتلميذ في القسم، فما يقدم للنظارة من مواد متنوعة "سياسية وفنية وفكرية..." يحظى بهيبة وقدسية، أوجبت فرض وصاية رسمية على الشاشة الصغيرة، لأنها تخاطب الوعي العام؛ أي الـ"نحن" الجماعية، فالمتلقي هنا مجرد مستهلك مغلوب على أمره، لا حول له ولا قوة.
جاء التطور التكنولوجي ليحرر التلفزيون، ما أدى إلى ظهور حقبة التلفزيون الجديد بداية عقد الثمانينيات، بعد فسح المجال أمام الخواص للاستثمار في قطاع التلفزيون، فبدأت القنوات الخاصة والمتخصصة في الظهور والانتشار، كان لهذه الخطوة انعكاس على وضعية المشاهد، فقد أضحى "سيدا" تعمل القنوات على نيل رضاه، ما حتم الاقتراب منه والانفتاح على مشكلاته واهتماماته الذاتية، أي الابتعاد عن استهداف الجماعة نحو مخاطبة الفرد، هكذا انتقل التلفاز من غرف الطعام "التربية والتثقيف" نحو غرف النوم "الترفيه والمؤانسة".
أخيرا حقبة ما بعد التلفزيون التي نعيش على وقعها منذ أعوام، بفعل النماذج الاقتصادية والثورة الرقمية والتحولات الثقافية، لدرجة أن الخبير دوك سيرلز، في مركز بيركمان للإنترت والمجتمع، في جامعة هارفارد يؤكد أن التلفزيون كما نعرفه الآن سينتهي في غضون الأعوام الخمسة المقبلة. قد يبدو هذا القول على الإجمال مبالغا بعض الشيء، لكنه في التفاصيل صحيح بنسبة كبيرة، فتلفزيون اليوم يخضع في المقام الأول لقواعد السوق والتنافس التجاري والبحث عن الأرباح، ما جعل أبوابه مفتوحة لمن يراه الأقدر على توفير هذه المكاسب، على سبيل المثال باتت الحدود بين الصحافي المحترف والهاوي شبه معدومة، بعدما صارت الصحافة مهنة من لا مهنة له.
كما أن الهجرة الجماعية لأكبر القنوات من عالم الشاشة الصغيرة في البيوت نحو مطاردة الجمهور في رحاب عوالم الشبكات الفسيح والهواتف النقالة، ينذر بقرب نهاية التلفزيون، ومعه نهاية تجربة إنسانية رائعة، بما تحمله من طقوس جماعية في المشاهدة، ونظام معين يفرض التقيد بمواعيد محددة في توقيت المتابعة "نشرة أخبار، برنامج حواري، فيلم سينمائي..." بعدما أضحى التدفق غير متناه على المنصات الرقمية.
ما يعزز فرضية قرب "نهاية التلفزيون التقليدي" هو دخول الشركات الكبرى على الإنترنت على خط خدمة البث التلفزيوني، بأسلوب يتوافق ومبدأ "الحرية" الذي تدعي هذه الشركات تقديسه. وتفيد الأرقام في هذا الشأن بأننا أمام ثورة لا شك ستكون لها تداعيات على جوانب كثيرة في حياتنا، فموقع "يوتيوب"، على سبيل المثال، يفيد بأن 400 ساعة فيديو تحمل عليه كل دقيقة، أي ما يعادل 65 عاما من الفيديو كل يوم. وبحسب موقع "إنترنت لايف ستاتس" تتم كل ثانية مشاهدة نحو 1200 فيديو على "يوتيوب"، أي أن الأعمال المعروضة على المنصة تشاهد آلاف المليارات من المرات في العام. من جانبهما أعلنت شركتا "فيسبوك" و"نتفليكس"، قبل نحو ثلاثة أعوام بلوغ عدد ساعات المشاهدة مائة مليون ساعة، و116 مليون ساعة على التوالي على منصتيهما يوميا.
يتم تدريجيا توديع التلفزيون التقليدي، بانتقال السلطة من يد المبرمج التلفزيوني نحو أيادي جمهور المشاهدين، ما أدى إلى بروز ظاهرة "الجمهور المشارك"User Generated Content، فهذا الأخير يصبح مساهما في صناعة المحتوى لتحول البرنامج التلفزيوني إلى إنتاج مشترك بين المقدم والمشاهد.