رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


تحية للمحاسبين في يومهم العالمي

تحية إجلال واحترام، وتهنئة من الأعماق إلى أولئك الذين يجلسون في المكاتب الخلفية يصنعون المعجزة كل يوم، إلى أولئك الرائعين الذين يمنحون السعادة كل شهر إلى مليارات البشر، يصنعون الابتسامات بينما هم قابعون خلف الشاشات الإلكترونية يسجلون الأرقام، ويصنفونها، فهذه للرواتب وهذه للمكافآت وهذه لخارج الدوام وهذه للبدلات وهذه للتوزيعات والأرباح، ولتنطلق معه كل شهر موجة من الحراك الاقتصادي تعم الأرض، بينما هم في مكاتبهم الخلفية ينظرون بفخر إلى ما أنجزته أيديهم من معجزة.
نعم إنها معجزة فلقد كانت نظرية القيد المزدوج التي أطلقها لوكا باتشولي معجزة بشرية في حد ذاتها، ذلك أن التوازن والعدل منطقهما يسير من عام إلى عام وتستطيع أن تراجع التوازن إلى أعوام خلت وتتوقع اتجاهاته إلى أعوام مقبلة، وإذا كانت المحاسبة "فنا" في المقام الأول فإنك قد تتساءل كيف كان لهذا المختص في الرياضيات أن يبدع نظرية بكل هذا الجمال الفني؟ لكن هذا العجب ما يلبث أن يزول إذا عرفت أنه عاصر ليوناردو دافينشي وأنه عمل معه، لذا ظهرت معجزته في القيد المزدوج معجزة فنية كسحر لوحات دافينشي نفسها، ولعل دافينشي هو الذي قاد باتشولي لهذا الابتكار كي تصبح النظرية في منتهاها لوحة فنية رائعة على شكل قوائم مالية مدهشة تسحرك كلما تمعنت في معانيها، وأصبح هناك ملايين المؤلفات فقط لتعليم الناس كيف يقفون مندهشين أمام لوحات القوائم المالية التي ينتجها المحاسبون كل يوم، لكن الفرق بين لوحات دافينشي ولوحات القوائم المالية أن الأخيرة تملك سحرا هائلا قادرا على إجبار الإنسان أن يغير مواقفه وقناعاته تجاه الأحداث الراهنة وتجعله يفكر بعمق في المستقبل أن قراراته التي سيتخذها اليوم ستنعكس حتما في اللوحات نفسها التي يقرأها اليوم، وكأن هناك تشابكا بين الماضي والمستقبل في لحظة واحدة فبينما تقرأ الماضي في لوحات القوائم المالية فإنك تصنع المستقبل دون أن تشعر.
المحاسبة فن في مقامها الأول، ولو أني كنت من ذلك الفريق الذي درسها وتعلمها من جانبها العلمي، لكن من تعلم الفنون المحاسبية يدرك معنى الشغف الذي يصيب كل من تعلق قلبه بهذا الفن عشقا يجعل البعض ينتظر لساعات الصباح الأولى وهو يرقب صناعة لوحات القوائم المالية، ويظل في سهره وسهده يترقب ردة فعل الأسواق أمام تلك المعلومات التي ستنتشر مع تباشير الصباح، ولهذا مع أن كثيرا من الممارسين لهذا الفن قد عانوا كثيرا جدا في الأيام الأولى لهم في عملهم، إلا أنهم يصبحون من مجانين عشقه بعد ذلك، فمن تعلم كيف الأرقام بالحقيقة، وكيف تصبح الأشياء الجامدة التي نسميها أصولا من حولنا ذات روح تدافع حقوقها وتطالب به، وحتى الأشياء التي لا نراها ولا نلمسها تصبح ناطقة ويتعامل معها المحاسب بكل أناقة، كما الألوان في اللوحات يمزج هذا بهذا لتصبح أصولا وهذا بهذا لتنطق بالالتزامات وهذا مع ذاك لتشكل هيكل التمويل، إنها المحاسبة التي تجعل الأرقام ألوانا ذات منطق. فإذا رسمت القوائم المالية العقارات بقيمة عشرة ملايين مثلا فهي تنطق بأنها موجودة ومملوكة وغير مرهونة وأن التقييم عادل، وأنها تنتج الثروة.
المحاسبة كعلم له احترام واسع، ذلك أنها مبنية على فلسفة ومفاهيم تحولت إلى قوانين لها ثبات نسبي، وهذه القوانين تفسر العلاقات بين القضايا التي يعيشها الإنسان، فالأبحاث تؤكد أن رقم الأرباح المعلن له أثره في الأسعار، بل في المنافسة والأسواق، الأبحاث العلمية درست بشكل عميق أثر أسلوب التقييم في أسعار الفائدة حتى أسعار العقار، ونتذكر هنا كيف أن تعديلا بسيطا في معيار القيمة العادلة كان له أثر بالغ في إنهاء الأزمة العقارية في الولايات المتحدة، وكيف أن هذه المعيار المحاسبي نفسه يصنع اليوم في المملكة سوقا ضخمة في التقييم والتثمين، إنها المحاسبة، ذلك العلم المدهش حقا، الذي يجعل الحكومات اليوم تنتقل من الأساس النقدي المعدل إلى أساس الاستحقاق ذلك أن مستويات المساءلة قد ارتفعت والمطالبة بالشفافية قد زادت ولا أكثر إبداعا من جعل الميزانية العامة تنطق بالشفافية كمثل المحاسبة والمحاسبين.
إنني فخور جدا أنني أنتمي لهذه الكوكبة الرائعة من الجنود المجهولين الذين يعملون ليل نهار من أجل ضمان التدفقات النقدية لكل البشر، وهم القادرون على تحديد قيمة الضريبة التي تذهب إلى الحكومات لتبني بها المدراس والمستشفيات، وهم وحدهم اليوم القادرون على تحديد قيمة الزكاة ووعائها التي يفرح بها الفقراء في العالم الإسلامي، وهم القادرون على منح الناس الثقة في المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي