الآفاق العالمية والإصلاحات الهيكلية
أستشهد في البداية بكلمات جون مينارد كينز، أحد مؤسسي الصندوق، عندما قال: "إن الاقتصاد في الأساس علم أخلاقي وليس علما طبيعيا. أي يستعين بالتأمل والحكم على قيمة الأمور". وهذه الكلمات تشهد على ما يهدف إليه الصندوق وخبراؤه.
فخبراء الصندوق يسترشدون في كل عملهم المنهجي بالتزامهم بتحسين حياة الناس. وهم لا يستخدمون الحكم على قيمة الأمور فحسب، بل إنهم يسعون إلى إضافة قيمة حقيقية. وفي كل عمل نقوم به، نهدف دائما إلى إيجاد صلة واضحة بين عملنا والمنافع التي يحققها لاقتصادات بلداننا الأعضاء وشعوبها.
لقد رأيت هذا بنفسي عندما قدم الصندوق الدعم لبلدي بلغاريا أثناء فترة التحول الاقتصادي التي مر بها من الأزمة إلى التعافي إلى زيادة فرص العمل ورفع المستويات المعيشية.
ورأيت مرارا وتكرارا كيف يستفيد الناس العاديون عندما يدار هذا التحول على نحو جيد، وعندما يضطلع الصندوق بدوره الأساس في تشجيع اعتماد السياسات السليمة من أجل تحقيق النمو الاحتوائي والمستدام.
وأنا أدرك حجم المسؤولية التي ينطوي عليها منصبي خاصة في وقت تتسارع فيه وتيرة التغيير في التكنولوجيا والمناخ وطبيعة العمل، على سبيل المثال لا الحصر.
والتغيير يوجد فرصا هائلة جديدة لكنه يوجد كذلك مخاطر لا بد لنا جميعا من خوضها بحرص.
وفي هذه البيئة، أرى الصندوق بوصفه "خط إمداد" حيوي لتوصيل المعرفة والموارد المالية والسياسات السليمة وتنمية القدرات. أراه ذخيرة من الخبرات والأدوات التي تساعد البلدان على جني ثمار التغيير والحد من خطر التخلف عن الركب.
ودائما ما تكون القدرة على إرسال الإشارات الصحيحة أمرا مهما، لكنها تكتسب أهمية أكبر حين يواجه الاقتصاد العالمي تطورات معاكسة. ولا شك أننا، بعد حالة الانتعاش المتزامن نشهد حالة من التباطؤ المتزامن.
ويعني تباطؤ الاقتصاد في نحو 90 في المائة من بلدان العالم أن النمو من المتوقع أن يبلغ 3 في المائة فقط هذا العام وهو أدنى معدل للنمو منذ بداية هذا العقد. وصحيح أن الاقتصاد العالمي لا يزال ينمو لكن بوتيرة شديدة البطء.
ويرجع ذلك جزئيا إلى ما تسببه التوترات التجارية الحالية من أثر سلبي في ثقة الأعمال والاستثمارات. أضف إلى ذلك زيادة عدم اليقين من خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى التوترات الجغرافية - السياسية، وزيادة العبء المكبل للنمو نتيجة الضغوط الديمغرافية وارتفاع الدين إلى مستويات قياسية.كل هذا ينذر بآفاق تدعو إلى القلق على المدى المتوسط، خاصة في البلدان التي تواجه صعوبات بالفعل، وبعضها مرتبط ببرامج مع الصندوق.
فتقديراتنا تفيد بأن 45 بلدا ناميا، يبلغ مجموع سكانها مليار نسمة تقريبا، ستعاني زيادة تباطؤ النمو على أساس نصيب الفرد مقارنة بالعالم المتقدم. وبدلا من اللحاق بالركب، من المنتظر أن تزداد هذه البلدان تأخرا عنه. ولمواجهة هذا التحدي ينبغي لنا تكثيف التعاون داخل الحدود القطرية وخارجها.
ما معنى ذلك؟ معناه أن البلدان يجب أن تعمل معا لإيجاد حل دائم بشأن التجارة والحيلولة دون انتقال التداعيات إلى مجالات حيوية أخرى، كالعملات والتكنولوجيا. يجب أن ننتقل من حالة الهدنة التجارية إلى السلام التجاري.
وهنا، نرى أن ما أعلنته الولايات المتحدة والصين أخيرا يشكل خطوة في الاتجاه الصحيح. وينبغي أن يتمثل الهدف في بناء نظام تجاري أفضل، نظام أكثر إنصافا، وابتكارا، واحتواء للجميع.
ويعني أيضا بناء توافق في الآراء في الداخل لضمان اتباع منهج أكثر توازنا لدعم النمو. ويقتضي تباطؤ النمو أن تظل السياسة النقدية داعمة. لكن جميعنا يدرك أن السياسة النقدية لا يمكنها القيام بهذه المهمة وحدها. وحيثما كان هناك حيز متاح، لا بد أن تقوم السياسة المالية العامة بدور أكثر فاعلية. والأهم من ذلك كله أن البلدان ينبغي لها الالتزام بالإصلاحات الهيكلية التي يمكنها تعزيز الإنتاجية والصلابة.
لننظر مثلا إلى خفض الحواجز أمام الدخول إلى قطاعات الخدمات، والتصدي للتمييز على أساس نوع الجنس في سوق العمل، وتحديث الأطر القانونية للحد من الروتين الإداري ومكافحة الفساد.
وبالطبع، فإن تنفيذ الإصلاحات الهيكلية ليس أمرا هينا أبدا. فهي تنطوي في بعض الأحيان على مواجهة أصحاب المصالح الخاصة المترسخة. وهي تتطلب توجيه اهتمام كبير لتأثيرها في محدودي الدخل، لكنها بالغة الأهمية لتجنب الوقوع في أسر النمو الباهت ولتشجيع الإنتاجية، وتوفير فرص العمل، ورفع مستويات الدخل. فكيف إذا يستطيع الصندوق دعمكم على الوجه الأمثل في هذه الجهود؟