فكرة الانتحار .. انزياح من المتن نحو المؤلف

فكرة الانتحار .. انزياح من المتن نحو المؤلف
فكرة الانتحار .. انزياح من المتن نحو المؤلف

أثارت فكرة الانتحار عبر العصور أسئلة كثيرة ظلت بلا أجوبة، فحتى اللحظة لم يستطع أحد مهما حاول تقديم تفسير لذلك الجبروت الخارق أو تلك القوة الاستثنائية التي تدفع المرء للإقدام على وضع حد لحياته، فالموت بحد ذاته أمر مفزع، فكيف إذا كان عن طريق الانتحار؟
حاول بعضهم ربط المسألة بالوضع الاجتماعي الذي يعيشه القائم بالفعل (الفقر، الجهل، المرض، السجن...)، لكن هذا التفسير لا يصمد طويلا أمام معطيات الواقع، إذ ما أكثر المنتحرين بعيدا عن المعيار الاجتماعي، فربما ترى تلك الفئات في الموت مخرجا من شقاوة الحياة، ومهربا من جحيم العيش.
لكن حين تنتشر الظاهرة في أوساط المبدعين من كتاب ومؤلفين وشعراء؛ ممن أنارت أعمالهم الطريق أمام الآخرين، وأحيت في نفوسهم التفاؤل، وبثت فيهم الثقة... ما يزال عطاؤهم مستمرا، وفاعليتهم في الحياة متجددة، فالأمر يطرح غير ما إشكال على أكثر من صعيد. وقد يحدث أحيانا، أن نجد الكاتب المنتحر يقَدم فيما كتبه أفكارا ورؤى تنقد حياة قرائه بينما يختار هو قتل نفسه.
يطول الحديث عن ظاهرة الانتحار، فهي قديمة قدم الإنسان نفسه. لكن بحثنا فيها سنحصر البحث في دائرة الأدب؛ فهو أفضل مصدر لأولئك الذين يرغبون في فهم دوافع المنتحرين للانتحار من ناحية. ومن ناحية أخرى، تشكل الأعمال الإبداعية التي تجعل من الظاهرة محورا لها، مجالا خصبا للبحث والتحليل والتأمل.

الانتحار تيمة رواية
يمثل الانتحار هاجسا أدبيا يعود إلى عصر الإغريق القدماء، وشهدت القرون اللاحقة له أعمالا كلاسيكية لكثير من الأدباء والشعراء والروائيين جعلوا من الانتحار موضوعا محوريا في إبداعاتهم، نجد من بينهم الكاتب المسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير، وعملاق الرواية الروسية ليو تولستوي، والروائي الفرنسي الكبير جوستاف فلوبير.
حديثا، نجد كثيرا من الروايات التي تناولت الانتحار في عالمنا المعاصر، فالروائية الأمريكية من أصول آسيوية سيليست نج عالجت الموضوع في روايتها المدهشة "ما لم أخبرك به" (2014)، من خلال قصة عائلة آسيوية أمريكية تعيش في ولاية أوهايو، تتصارع مع واقع إقدام ابنتهم على الانتحار منذ زمن بعيد. تثير الرواية تساؤلات حول دوافع الفتاة لاتخاذ مثل هذا الخيار المأساوي، وتتناول كذلك التعقيدات التي تحول دون انتقال العائلة إلى المستقبل، ونسيان هذا الحدث الجلل في حياتهم.
من الأسماء الشابة التي سطع اسمها في عالم الرواية، وتحديدا الأدب الشبابي، من خلال تناول موضوع الانتحار، نذكر الروائي الشاب جي آشر برواية النوعية "ثلاثة عشر سببا، لماذا؟" (2007)، التي تحولت لمادة خام لعديد من الأعمال السينمائية، كانت آخرها سنة 2017، برغم كل الانتقادات حول عدم تعامله مع هذه الظاهرة بقدر عال من المسؤولية.
دون إغفال الروائي الأمريكي ديفيد فوستر والاس صاحب رواية "الكوميديا اللا متناهية" (1996) التي تحكي عن واقعة انتحار غريبة قام بها مخرج الأفلام، في أسلوب شقي يكتشف من خلاله القارئ في النهاية أن الرواية تستنسخ وفاة المخرج، وتحاول تطبيق منهجية انتحاره على القارئ. ولكن ما الذي حصل في النهاية؟ أقدم الكاتب نفسه على الانتحار شنقا عام 2008.
"الوداع الأخير" و"قلبي والثقوب السوداء الأخرى"... وغيرها من العناوين التي نجدها ضمن قائمة طويلة للأعمال التي اختارت ظاهرة الانتحار حبكة لأحداثها، حتى بدأ الحديث على لسان بعض النقاد عن إمكانية استعادة ظاهرة "تأثير فيرتر"؛ بطل رواية الكاتب الألماني غوتة، الذي بلغ الأمر بالمنتحرين ممن اختاروا تقليده، ارتداء ذات الملابس التي انتحر بها فيرتر (معطف أزرق وسروال أصفر)، ما دفع دولا كالنمسا والنرويج والدنمارك إلى منع تداول الرواية.
ربما كان الأدباء أكثر الأشخاص تأثرا بالموضوع، واختلفت درجاته من فرد لآخر؛ بين من أبقاه مجرد موضوع يثار في الأعمال الأدبية، ومن تسلل من كتاباته، وأصبح هاجسا له، وخلاصا من عالم لم يعد قادرا على تحمله. وهذا ما فطن إليه الشاعر الإنجليزي اللورد بايرون، حين قال متحدثا عن نفسه وأقرانه من الشعراء: "نحن أصحاب الصنعة كلنا مجانين؛ فجميعنا تصيبنا نوبات الحبور الزائد والكآبة المفرطة".
الانتحار خيار في الحياة
وضع كثير من المبدعين حدا لحياتهم، ربما إيمانا منهم بمقولة الشاعر الفرنسي شارل بودلير "سوف أقتل نفسي غير آسف على الحياة، سوف أنتحر لأنني لم أعد قادرا على الحياة، لقد تعبت من النوم والاستيقاظ كل يوم، يا لها من عادة مملة رتيبة، أريد أن أنام مرة واحدة إلى الأبد"، أو اقتناعا بقول الكاتب الهولندي بأن "استعجال الموت أرحم من انتظاره"، أو ربما -وبكل بساطة – كدلالة على الفهم، كما يرى فرانز كافكا "أول علامات بداية الفهم أن ترغب في الموت".
تكاد تكون محاولة الكاتب الإسباني إنريكي فيلا ماتاس "انتحارات نموذجية" (1995) أنجح المحاولات التي استطاعت التوفيق بين الرواية والتوثيق، وهو بصدد تقديم سردية عن 12 شخصية مشهورة في عالم الإبداع، اختارت من تلقاء نفسها مغادرة الحياة طواعية. خيار الانتحار هذا في نظر الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو ليس حلا مناسبا، لأنه ينفي المشكلة بدلا من حلها، معتبرا أن الحل المناسب يكمن في مقدرة الإنسان على إيجاد فن يعكس حالته الإنسانية.
يبقى المثير والغريب حقا ما يقدمه هؤلاء المنتحرون من مبررات لشرح دواعي إقدامهم على هذه القرارات، فالروائية الإنجليزية فرجينيا وولف اختارت الانتحار غرقا خوفا من الجنون، فيما فضلت الكاتبة الأرجنتينية مارتا لنيش الانتحار بعدما بلغت 60 من العمر، لأنها لم تطق رؤية التجاعيد في وجهها. وأنهى الروائي الياباني يوكيو ميتشيما حياته بغرس خنجر في معدته بعد كلمة ألقاها من شرفة كلية الأركان، دعا فيها إلى رفض الخضوع للحضارة الأمريكية وتعديل الدستور الياباني. فيما كان الانتحار عند الروائي الإيطالي سيزار بافيز مناسبة احتفالية وصفه بأنه أهم عمل في حياته.
من أشد حالات الانتحار غرابة انتحار الكاتبة البريطانية سارة كين التي قامت بتأليف ست مسرحيات، في 23 من العمر، واختارت الانتحار شنقا في سن 28 بعد فترة وجيزة من إنهاء مسرحيتها الأخيرة "ذهان". فيما وضع هارت كرين أو "رامبو أمريكا" كما يصفه النقاد حدا لحياته عام 1932 بإلقاء نفسه في البحر من على الباخرة التي استقلها من المكسيك، بعدما عجز عن كتابة قصيدة مستوحاة من الأزتيك.
"ما من شيء لتكتب. كل ما عليك فعله هو أن تجلس إلى الآلة الكاتبة وتبدأ في النزيف"، هذه الكلمات القابلة لكل التأويلات هي ما جعل الأديب العالمي إرنست همنجواي الحائز على جائزة نوبل للآداب، أمر انتحاره إلى جانب الروائي الياباني ياسوناري كاوباتا الحائز على ذات الجائزة غامضا، حتى وإن قيل إنهما لم يحتملا الشهرة أو اعتقادهما بأنهما لن يكونا بمستواها بعد الآن.

الأكثر قراءة