جوع المعرفة .. باب لتنمية النشء أو تضليله

جوع المعرفة .. باب لتنمية النشء أو تضليله
جوع المعرفة .. باب لتنمية النشء أو تضليله

الجوع لا يعني بالضرورة فراغا في المعدة، أو هكذا كشفت الدراسات الاجتماعية، التي تناولت الجوع في أبعاده الأخرى، مثل الجوع المعرفي، الذي يعانيه الأطفال تحت سن 12 سنة، ويهدد التنمية الشاملة للمجتمعات، فالمكتبة والسينما والمسرح ومعارض الفن على إطلاقها لها دور في تنمية الإنسان، ومؤثر رئيس في فكر الطفل وتوجيهه.
"الجوع المعرفي" كما يطلق عليه هو حالة من نقص الثقافة والمعرفة، وفيه تزداد رغبة الأفراد في البحث عن الثقافة وكل ما هو جديد، والحاجة إلى تنمية عقله بعدما غابت المعرفة عنه طويلا، ما جعله يعتنق سلوكا وأفكارا أو تيارات معينة، والانغلاق على الذات، منكبا على البضاعة الرديئة والأفكار المعلبة التي تسبب تلوثا عقليا.

دراسة تكشف الضعف
مصطلح الجوع المعرفي أو الثقافي تناولته دراسة بريطانية، أجرت استطلاعا عاما على نحو ألفين من الآباء والأمهات لأطفال تراوح أعمارهم ما بين سن الخامسة حتى الثانية عشرة، في مناطق مختلفة من المملكة المتحدة، وبدت نتائجها "محبطة" للباحثين، حينما كشفت أن أربعة من عشرة أطفال لم يدخلوا أبدا معرضا فنيا، و 17 في المائة لم يزوروا متحف مدينتهم أو المعالم الثقافية الشهيرة فيها.
ربع الأطفال، بحسب ما كشف آباؤهم، لم يدخلوا مسرحا، وأكثر من النصف لم يدخلوا حفلات موسيقية كلاسيكية، فيما اعترف نصف الآباء بأنهم بذلوا جهودا "ضعيفة" أو "معدومة" لتعليم أطفالهم التاريخ أو الثقافة، واعتمدوا على المدارس في ذلك.
أما في العالم العربي، فتبدو الأمور أكثر ضعفا، إذ تشير دراسات وإحصائيات غير رسمية إلى ضعف في الإنفاق على الثقافة والمعرفة بشكل عام، فيما تشير تقارير التنمية الثقافية إلى أن الإنفاق على الثقافة يبلغ 0.2 في المائة من إجمالي الدخل القومي العام في معظم الدول العربية، وربما مرد ذلك يعود إلى انعدام الأمن في بعض المناطق، وقلة الغذاء، والتضخم الاقتصادي والبطالة التي تصل إلى مستويات قياسية في بعض الدول، وتصدر أولويات أخرى على المعرفة.

المدرسة مؤثر رئيس
تشير الدراسات الفلسفية والفكرية إلى أن المدرسة ليس مجرد مكان لتعلم القراءة وتلقي العلوم الأساسية فقط، وإنما فضاء يمكن من خلاله تكوين الطفل وإكسابه التجارب والخبرات، وفرصة للاطلاع على التاريخ وثقافات العالم، إلا أن إيعاز المدرسة بكل هذا الدور، لا يمكن أن يجعلها تنجح، ولا سيما أن قدرات كل مدرسة ومعلميها تختلف في منطقة عن الأخرى.
إضافة إلى ذلك، فإن مؤسسات المجتمع والأهالي، عليهما مسؤولية مشتركة في تحسين تجربة الأطفال الثقافية، كي لا يعانون جوعا معرفيا، حيث تقترح الدراسة التي أجريت في برمنجهام صقل فكر الطفل منذ صغره، وتخصيص وقت لتنمية الطفل فكريا، وأن يقتطع الآباء والأمهات من أوقاتهم لحماية الطفل بتنمية معارفه وفكره، وتعليمه الطرق المناسبة للتفكير والفلسفة ورؤية الأشياء من منظور وأبعاد مختلفة.

مجاعة معرفية
يكشف إعلاميون وباحثون أن العالم العربي تعدى مرحلة الجوع الثقافي في مراحله الدنيا، ووصل إلى مرحلة "المجاعة المعرفية، فالإعلامي مفيد فوزي كتب في مقال له أن "الجوع الثقافي في مصر ظاهرة لم ننتبه لها، هناك مجاعة ثقافية!".
ويصف مثقفون، ومنهم الكاتب وائل السمري، بأن مصر تعيش حالة "جوع ثقافي" جميل، إذ يزور معرض القاهرة الدولي للكتاب نحو مليوني زائر، وهذا الجوع إلى المعرفة ينبئ بأن بنية مصر الثقافية تتغير، وأن الثقافة دخلت إلى قائمة أولويات المصريين، مضيفا: "ليس أدل على هذا من مشهد الطوابير المتراصة أمام معرض الكتاب، ونحن الذين لم نعتد رؤية هذه الطوابير سوى أمام أفران الخبز أو مستودعات أنابيب الغاز".
فيما سجل الباحث السوداني المعروف الدكتور حيدر إبراهيم علي نقده للشباب الذين يعانون جوعا ثقافيا، ما دفعهم إلى تبني أفكار تنظيم "داعش" الإرهابي، مستدلا بحادثة سفر 11 شابا سودانيا من الطلاب الجامعيين إلى تركيا للانضمام إلى التنظيم.
الغريب في الحادثة أن ثمانية من هؤلاء الشباب يدرسون الطب، وجميعهم أبناء لأطباء، أبناء الشريحة التكنوقراطية العليا، وقد حصلوا على جوازات سفر بريطانية كونهم ولدوا هناك في فترة دراسة آبائهم فيها، أو عندما كانوا لاجئين فيها، فلم يكن دافعهم الفقر أو عدم التعليم، فما كان دافعهم إذا؟
يجيب علي بأن الآباء انشغلوا بجمع المال وأهملوا أبناءهم، كما لام المؤسسة الدينية التي لم تأخذ مكانها الصحيح في توعية الشباب، إلى جانب النظام الذي لم يفِ بوعوده بإجراء ثورة ثقافية.
وإلى العراق، حيث كثرت المطالبات بسد حالة الجوع الثقافي التي عانت منها البلاد نحو أربعة عقود من الزمن، وعمد النظام العراقي القديم إلى توظيف الثقافة والآداب لمصلحة أيديولوجيا النظام البعثي، ثم عانى العراق من المطبوعات المؤججة للطائفية، وافتقد لفترات طويلة إلى المحتوى المتوازن والرزين القادر على تنمية الطفل العراقي بشكل سليم، بعيدا عن التيارات الفكرية المتعصبة، والخطاب الديني المتطرف والمتشدد، الذي يدعو من خلال بعض التيارات إلى العنف.

ترويض الجوع
تعويض الطفل عن حالة الجوع الثقافي والمعرفي، وحتى الاجتماعي، يشكل أهمية لدى الباحثين حول العالم، فترويض الجوع بحاجة إلى وجبات دسمة من الثقافة والحفلات المسرحية والموسيقية، وزيارات للمتاحف، والاطلاع على ثقافات الآخرين وأفكارهم، كون انهيار منظومة القيم الثقافية وضعفها يوجدان حالة من الجهل والتضليل والأمية وقلة الوعي بالقضايا الفكرية، وحتى القضايا الأساسية والجوهرية المؤثرة، فتتلقفه التيارات باختلاف توجهاتها، وتنفذ أجندات عدوانية في بعض الحالات.
أما الحالة العربية فلا تزال بحاجة إلى دراسات وإحصائيات ومسوح على الأطفال لكشف مدى حالة الجوع الثقافي التي تعيشها المنطقة، كما يكشف هذا النوع من الدراسات عن مواطن الضعف، وأبرز المجالات التي يجب التركيز عليها، ومصادر المعرفة التي يعتمد عليها الأطفال عادة، حتى لا يقع الطفل في براثن التطرف والإرهاب والجهل.

الأكثر قراءة