"مناظرة القرن" .. أبعد من محاجة وأقرب إلى الاعتراف
تابع جمهور المهتمين بشغف كبير مناظرة القرن أو مواجهة العصر؛ بحسب بعض التعبيرات، التي شهدت أطوارها مدينة تورونتو الكندية الشهر الماضي؛ 19 نيسان (أبريل)، بين سلافوي جيجك الفيلسوف السلوفيني الشهير المحسوب ماركسيا، وجوردن بيترسون اليميني عالم النفس الكندي المثير للجدل، وجاءت تحت عنوان "السعادة: بين الرأسمالية والماركسية".
ثمت أكثر من سبب لتفسير هذا الاهتمام والعناية بهذا الحدث الفكري والثقافي العالمي، فآخر مناظرة بهذه الصيغة تعود إلى عام 1971 بين المفكر الفرنسي مشيال فوكو والأمريكي نعوم تشومسكي، عن "الطبيعة البشرية" التي عدت حينها مناظرة العصر، وحُق لها أن تكون كذلك؛ لجهة أولى تتعلق بالقامات الفكرية التي شاركت فيها، ولجهة ثانية تتصل بما جاء فيها من نقاش لا يزال مرجعا حتى اليوم.
نقيض مناظرة هذا العام التي جمعت بين مفكرين أو بالأحرى "نجمين" من نجوم الميديا، يتحدر كل واحد منهما من خلفية مختلفة، لكنهما معروفان بإثارتهما الجدل والقدرة على المشاغبة والاستفزاز، في زمن يمكن القول فيه "إن تحقيق الإثارة فيه أضحى مقدما على إبداء الحقيقة".
فالمناظِر الأول سلافوي جيجك سبعيني بارز، فيلسوف يساري مرتبك كثير الحركة، ما يساعده على جلب الجمهور لدرجة مطابقته بين طريقة الكتابة والحديث، ما جر عليه وابلا من النقد. أما الثاني فهو جوردن بيترسون في الخمسينيات من العمر، إنسان متعجرف، وأحد أبواق التنظير لأيديولوجيا التفوق والخطاب اليميني، والمدافع بشراسة عن الرأسمالية.
انتصار منطق التوافقات
يبقى الأصل في فكرة المناظرات هو المواجهة بين الطرفين، بافتراض تموقعهما على طرفي نقيض بشأن الفكرة أو الموضوع مدار الحديث؛ وهو السعادة هنا. لكن واقع الحال لم يكن كذلك، فبعد استغراق بيترسون نصف ساعة من الوقت في هجومه الشديد على الماركسية؛ ظانا أنه في مناظرة ضد الماركسية. حيث بدأ بقلب مقولة كارل ماركس عادّا "الفقراء لا يزدادون فقرا تحت الأنظمة الرأسمالية، بل يزدادون ثراء أيضا".
جاء الدور على جيجك الذي لم ينخرط في هذا الأمر، حتى إنه لا يتحدث بطريقة حماسية استعراضية مثلما يفعل منافسه، حيث حافظ على وجهة نظر "نتشوية بروتاجوراسية" فاقدة للمعالم، وغير قائمة على أساس صلب. أكثر من ذلك، فاجأ الجميع بتبنيه مجموعة من الانتقادات التي قدمها خصمه، بعدما انتقده هو بدورة ماركس، قائلا "أنا لا أدافع عن ماركس بل فقط أقول إن الأمر لم يكن واضحا بالنسبة إليه".
وجد بيترسون نفسه في حيرة٬ بدت بوضوح حين أعلن أنه "قادم لنقد شيء يتصور أن الطرف الآخر يدافع عنه". لكنه لم يتوقف عن مواصلة النقد "ردي هو سمعت نقدا عن الرأسمالية بلا دفاع حقيقي عن الماركسية، وهو أمر مثير للجدل، لأن دكتور جيجيك ركّز على مشكلات الرأسمالية، وأزمة السعادة الفردية بدلا من التحدث عن منافع الماركسية".
حاول جيجك كشف تهافت أطروحة خصمه بتسجيل نقاط عليه بأيسر الطرق، فقد عدّ أن من "كانت السعادة هي هدفه الأخير فهو ضائع، لأنها يجب أن تأتي نتيجة ثانوية لجهدك المبذول في قضية معينة".
معركة البحث عن التصنيف
أدرك جيجك أن تبنيه المطلق للماركسية يضعه طعما سهلا بين يدي منتقديه، ما دفعه إلى المراوغة أكثر من مرة في المناظرة. حتى إن خصمه قال "أنت ماركسيّ غريب. أثناء تصفحي لأعمالك واضح أنك مفكر أصيل وشجاع أخلاقيا، ومن هنا يأتي سؤالي: مع الأخذ في الحسبان أصالة أفكارك، لماذا تتابع الترويج للماركسية الآن بدلا من الترويج للجيجيكيّة؟ إذ يبدو أن في طريقة تفكيرك وفي أفكارك أصالة كافية تكفيك من الانحياز لعقيدة عمرها 170 عاما كالماركسية، فلماذا؟".
يبدو أن التمكن من حرفة الفيلسوف ساعد كثيرا جيجك على الخروج من المناظرة بمظهر المنتصر، فبدل السجال بشأن مسألة الانتماء هوى بمعول النقد على مرافعة خصمه التي شيد صرحها على تصنيف جيجك ماركسيا، حين أعلن أنه هيجيلي أكثر من كونه ماركسيا.
"أحب في هيجل انفتاحه على المستقبل". الخطير في الماركسية بحسبه دائما "هو بنيتها الغائية نحو نهاية واضحة، حيث يعرف الماركسيون القوانين التي تحكم التاريخ، وما عليهم إلا استعمالها، في الماركسية واضح لك ما يجب فعله، وما سينتج عنه". على النقيض من ذلك في الفكر الهيجيلي "لا تستطيع الفلسفة توقع ورؤية المستقبل. والمأساة اليوم أننا لا نملك خريطة إدراكية متفقا عليها: أين نقف الآن، وأين نتجه؟".
كان السجال بشأن التصنيف ومحاولة كل طرف خندقة خصمه في خانة معينة إحدى العوامل التي أفرغ المناظرة من جوهرها، وحولت ثلاث ساعات من النقاش إلى ما يشبه حوار الطرشان.
من المناظرة إلى الاعتراف
عكس ما يجري العرف به في المناظرات، توافق المتناظران أكثر مما اختلفا في موضوع إشكالي بامتياز "السعادة: بين الرأسمالية والماركسية"، يصعب على أصحاب المرجعية والمدرسة الواحدة التوافق، فكيف يقع ذلك وهما في أوج الاختلاف والتباين.
إن النقاش الذي ترقب مناصرو الطرفين من اليسار الراديكالي واليمين المحافظ، أن يتحول إلى حلبة صراع أيديولوجي، جاء خاليا من الهجومية الصدامية، وعلى درجة عالية من الصدق والاعتراف بإخفاقات كل من الجبهتين الفكريتين.
يكتشف المتابع لكافة مجريات أطوار المناظرة أن "النجمين" أسقطا من أذهانهما حسابات الجمهور، وقررا تحويل التناظر إلى فرصة للمراجعة والاعتراف، والهجوم على الأيديولوجيا عوض نقد الآخر.
فالظاهر أن المناظرة لم تقدم شيئا جديدا، فكل ما قيل فيها لا يعدو أن يكون مجرد تبسيط أو إعادة صياغة لجدالات سابقة متناثرة في فصول مؤلفات الرجلين؛ بعضها شعبوي وبعضها متخصص. ما يثير أكثر من تساؤل بشأن تسميتها بـ"مناظرة القرن"، التي لا نجد لها تفسيرا إلا من أجل تبرير السعر المرتفع للتذكرة. لكن هدف المناظرة لم يكن من الأساس أن تقدم شيئا جديدا، كان هدفها أن تكون مناظرة، فتعامل معها على أنها كذلك.