الشيخوخة .. تجربة الفناء الحديثة

الشيخوخة .. تجربة الفناء الحديثة
الشيخوخة .. تجربة الفناء الحديثة

تعد الشيخوخة آخر مرحلة من عمر الإنسان، قبل مغادرة عالم الأحياء، وظل نطاق الدراسات والاشتغال بشأنها محدودا، إذ لم تسترع انتباه الباحثين إلا في العقود الأخيرة، وقد اقتصر هذا الاهتمام البحثي على جوانب بعينها، يأتي في قائمة اللائحة تخصص طب الشيخوخة، الذي بدأت الكتابة والتأليف فيه تتزايد، رغبة في فهم وتفكيك ما يطرحه الواقع من أسئلة ومشكلات وقضايا، مع توسع قمة الهرم السكاني على الصعيد العالمي بسبب ارتفاع نسب الشيوخ.
يندرج كتاب "لأن الإنسان فان، الطب وما له من قيمة في نهاية المطاف" لأتول جواندي؛ الطبيب الأمريكي من أصول هندية، المترجم حديثا ضمن سلسلة عالم المعرفة "العدد 469 فبراير 2019" في هذا المجال، مع ميزة خاصة تتعلق بانفتاح صاحبه على حقول معرفية متداخلة ومتنوعة، تجعل محتواه نوعيا من ناحية، وتيسر من ناحية أخرى على القارئ غير المتخصص فهم واستيعاب مضامينه؛ لدرجة أن متصفح الكتاب يكاد ينسى أن مؤلفه بروفيسور وطبيب جراح.
عمل جواندي على تقديم مقاربة مغايرة لما درج أطباء الشيخوخة على تناوله في كتبهم، فطيلة ثمانية فصول بعناوين مثيرة "الذات المستقلة، أشياء تتداعى، التخلي، محاورات صعبة، امتلاك الشجاعة..." أقرب ما تكون إلى مباحث الفلسفة والآداب منها إلى الطب والعلوم الحقة. يطرح ما تصدى له من مشكلات في ممارسته المهنية، بروية وعمق يجعلان من المواضيع المثارة؛ بلغة بسيطة ونتائج تجريبية، مسائل فلسفية قبل أن تكون شؤونا طبية.
ما أن يصل القارئ إلى خاتمة الكتاب، وعلى غرار طي الصفحات يطوي الكتاب في الذهن عديدا من الأفكار والبديهيات غير السليمة التي تعايشنا معها؛ عن وعي أو من دونه، بشأن قضايا الطب والشيخوخة. فعلي سبيل المثال "كان الهدف من دراسة الطب - كما كنا نفهمه - هو تعلمينا كيف ننقذ حياة الناس، وليس كيف نعتني بنهاياتهم"، ما يحتم بالضرورة إعادة تحديد الأهداف، بحسب المؤلف.
لقد غيرت إمكانات العلم الحديث مسيرة الحياة بشكل عميق، فالناس يعيشون أطول، ويعيشون حياة أفضل مما كانوا يعيشون في أي وقت من أوقات التاريخ. لكن التقدم العلمي جعل أحوال الشيخوخة والموت أحداثا طبية، وجعلها أمورا يجب أن يتعامل معها المختصون بالعناية.
تأتي هذه الدعوة لإعادة النظر في الغاية من وراء طب الشيخوخة بأكمله، وهي ليست الأولى من نوعها، فقد سبق للكاتب شيروين نيولاند أن أشار إليها في كتابه "كيف نموت" حين قال "كان انتصار الموت بوصفه أمرا لا مفر منه في نهاية المطاف شيئا متوقعا ومقبولا عند الأجيال السابقة لنا. كان الأطباء على استعداد أكثر منا بكثير لأن يقروا بمؤشرات الهزيمة، وأقل غرورا بكثير منا في عدم إنكارهم الهزيمة أمام الموت".
يبقى الكتاب إذن محاولة في كشف مضامين تجربة الفناء الحديثة، مع ما يعنيه الأمر من كوننا مخلوقات تشيخ ثم تموت، وكيف غير الطب هذه التجربة؟ وأين توقف عن تغييرها؟ وما الأفكار الخاطئة التي حملناها حول نهاية الإنسان المحتومة؟ وكيف نتعامل مع هذه النهاية؟
ربما يجهل كثيرون منا أن الشيخوخة حولتنا إلى مخلوقات غريبة، فهذه الأخيرة طارئ وأمر حدث على حياة الكائن البشري فوق الأرض، إذ نجد أن أصل حياة الجنس البشري التي امتدت إلى مائة ألف عام، باستثناء القرنين الماضيين، كان بمعدل حياة لا يتعدى 30 عاما أو أقل بقليل. فعلي سبيل المثال، كان معدل أعمار مواطني الإمبراطورية الرومانية 28 سنة.
معنى ذلك أن المرء يموت قبل أن يصل إلى سن الشيخوخة، وعن هذا قال أحدهم "أن يموت المرء بسبب الشيخوخة أمر نادر وفريد واستثنائي، بل إن أنواع الموت الأخرى طبيعية أكثر منه بكثير، إنه آخر شكل من أشكال الموت، وأبعدها عن الشيء العادي".
اليوم انقلبت الآية، وصارت الشيخوخة هي الأصل، فمعدل العمر في كثير من بقاع العالم، يتجاوز 80 عاما، ما يجعلنا فعلا مخلوقات غريبة، نعيش أكثر بكثير مما هو متوقع لنا؛ فحينما ندرس فترة الشيخوخة يكون ما نحاول فهمه ظاهرة أقرب إلى أن تكون غير طبيعية من كونها طبيعية.
توقف الكاتب مطولا، وفي أكثر من فصل، عند التحولات والتطورات المتلاحقة للمجالات المرتبطة بالشيخوخة في المجتمعات الصناعية "التطبيب، الرعاية، المساعدة الاجتماعية...."، مؤكدا أن نسبة كبيرة من دور المسنين في الغرب أشبه ما تكون بالسجون ودار الأيتام. وهذا ما أكده عالم الاجتماع إيرفينج جوفمان في كتابه "الملاذات"، حيث عد هذه البيوت والسجون شأنها شأن معسكرات التدريب العسكري مؤسسات مطلقة السيطرة.
فالراحة والعناية التي يحتاج إليها هؤلاء المسنون مفقودة فيها، بعدما تحولت إلى مجرد "معتقلات" تفرض على المقيمين فيها برنامجا صارما غير قابل للتغيير أو التعديل، ما يعني روتينا يوميا في انتظار حلول أجلهم. وهنا يقارن المؤلف بين أدوار باقي الأطباء ودور طبيب الشيخوخة، فهذا الميدان لا يشعر صاحبه بالتوفق، لأن دور الطبيب ليس القضاء على مرض معين أو علاج خلل ما، إنما السعي إلى الحفاظ على جودة الحياة، وهذا يعني - بحسبه - أمرين، إبقاء المريض بعيدا قدر الإمكان عن الأعراض الشديدة للمرض، والمحافظة قدر الإمكان على أداء الجسم ليكون الفرد عضوا نشيطا.
عرج الكاتب في أكثر من فصل على مسائل متعلقة بالمسنين والشيخوخة، بعيدا عن الطب، فهذه الفئة في نظره فقدت الشيء الكثير في عصرنا الراهن، بعدما أصبح كثير من الأفراد اليوم يجنحون إلى تصغير أعمارهم حينما يسألون عنها، بعدما كانوا في السابق يجنحون إلى تكبيرها، لأن التوقير الذي يحظى به المسنون شيء يطمح إليه كل إنسان.
لم يفقد كبار السن التوقير فحسب، إنما فقدو معه أيضا احتكارهم للمعرفة والحكمة اليوم، بفعل تقنيات التواصل، بدءا من الكتابة نفسها، وامتدادا إلى الإنترنيت. في الماضي كان أصحاب العمر الطويل مرجعا يعطي معنى لما يحدث في العالم، أما الآن فالسباق إلى "جوجل" يفي بالغرض وزيادة.
ينبغي التأكيد على أن كثيرا من المشكلات والقضايا التي يطرحها صاحب الكتاب مرتبطة بالتجربة الغربية ومسار تطورها، ومستبعد حدوثها في سياق تجربتنا العربية الإسلامية، لعدة أسباب كالتنشئة الاجتماعية والقيم الخاصة.. وهنا وجب التأكيد على أن موروثنا العربي والإسلامي ليس كله غثا، والتجربة الغربية ليست كلها سمينة، فالمراوحة بين هذا وذاك سنة كونية، لا مفر منها.

الأكثر قراءة