«لأن أدنى ...»
تنتشر في هذه الأيام حالات تحدي القناعات التي أوجدتها المجتمعات على مدى قرون. يمارس كثير من الشباب هواية مخالفة كبار السن الذين عرفوا من أيام طفولتهم حدودا لا يمكن أن يتجاوزوها. هؤلاء الذين كانت طفولتهم مبنية على التراتبية، ودقة التعامل في كل شيء، ابتلوا اليوم بمن تربوا على أيديهم ليكون جزاؤهم سريعا في حياتهم.
ترك كثير من الآباء العناصر التي تربوا عليها وأتقنوها بالوراثة والتوارث، تلك التي غرست في عقولهم وأفئدتهم فأصبحت كالهواء والماء في تعاملهم، ولم يعلموها أبناءهم وبناتهم اعتقادا منهم أن هذه الأشياء تأتي بالتأسي وليس بالإكراه كما حدث معهم، ليفاجؤوا أن الجيل الجديد يرى في نفسه حالة فريدة من التفوق المنطقي والعقلي؛ ما يعطيهم الحق في أن ينافسوا الكبار على المجالس والحديث في أغلب المواقع والمناسبات.
تذكرت هذا وأنا أحضر لقاء شارك فيه كثير ممن يكبرونني والأكثر ممن يصغرونني. رأيت بني سني يتراجعون عن مواقعهم في المجلس حين رأوا من يكبرونهم سنا، وفي المجلس نفسه رأيت صغار السن يهملون ذلك ويتناقشون ويتمازحون دون اكتراث بمن يأتي ومن يذهب.
أقول هذا وأنا أشهد أنني واحد من تلك الفئة التي لم تحسن غرس كثير من المفاهيم في عقول وقلوب الأبناء والبنات، ولعلنا نقف مشدوهين للنتائج التي بدأت تؤثر في رغبة الناس في التواصل أو حضور المناسبات الاجتماعية لأسباب من أهمها انتشار حالة عدم الاكتراث هذه.
كيف يمكن أن نغير هذه الحالة؟ سؤال تداوله الجميع. ومع النقاش وجدنا أن الحالة في واقعها عالمية، وأنها واحدة من مخرجات التطور الهائل في التواصل، حيث أصبح الكل يعرفون الكل، فلا يحسب أحد حسابا للآخر وتذوب الفوارق العمرية ليحل محلها فوارق الاعتداد بالذات، والاهتمام بالبروز مهما كلف ذلك من العلاقات الاجتماعية أو الاحترام المتبادل بين الناس.
هنا تذكرت قول العرب «لأن أدنى في المجلس خير لي من أبعد فيه، وهو كناية لعقلانية عدم وضع الواحد نفسه في غير مكانه»، لأن ذلك سيكون له الأثر الأكبر في علاقاته بالآخرين واحترامهم وتفهمهم له. على أن المجتمعات العربية وضعت كثيرا من القواعد لمن يدنى ومن يبعد، لكن البناء أصعب ــ بكثير ــ من الهدم، وأرجو ألا يكون ما نراه اليوم بداية لهدم مجموعة القيم التي بنيت فينا على مدى قرون من الزمن.