الصحافي .. مؤرخ اللحظة

الصحافي .. مؤرخ اللحظة
الصحافي .. مؤرخ اللحظة

الروائي الحق هو مؤرخ بامتياز، لكنه لا يكتب التاريخ بالطريقة التي يفعلها المؤرخ، وإنما يختار مفصلا زمنيا من هذا التاريخ، يثير اهتمامه فيكسبه حياة من لحم ودم. لكن الفرق الأدق هو ذاك الذي يصوغه حين يلاحظ أن التاريخ يسجل العبور غير المنتهي للحشود الزمنية، وهي تقطع الزمن، أما الرواية فتقوم بمهمة تبدو نقيضة، هي الإمساك بوجود الفرد الإنساني على صفحة الأيام، فتجعل منه مقيما لا عابرا، على خلاف ما يفعله التاريخ أو المؤرخون.
إذا كانت هذه حال الروائيين في تعاطيهم مع التاريخ، فإن أحوال الصحافيين أكثر اشتباكا وتعقيدا مما نتصور. فما يقدمه الصحافيون من إسهامات، وما سجلوه من "روايات أولية لأحداث التاريخ" يبقى محط تقدير من كبار المؤرخين، ومحل استيعاب من صانعي السياسات، ومصدر تذكير بحقيقة الأمور، موجه إلى السياسيين والمسؤولين؛ من منظور الصحافية جانين دي جيوفاني. بذلك يكون "الصحافي مؤرخ اللحظة" بتعبير الأديب الفرنسي ألبير كامو، وتكون الصحافة؛ في المحصلة، هي تاريخ اللحظة.
قول كهذا يؤخذ على الإجمال وليس على التفصيل، لأن الصحافة كأصل، بحسب الفيلسوف شوبنهاور مجرد "عقرب الثواني للأحداث العالمية". بمعنى أن الآنية أو إكراه الحاضر، يحرم الكتابة الصحافية من الوصول إلى قلب الواقع، ما يجعل وصف "الصحافي المؤرخ" الآخذ في الانتشار محل إعادة نظر، لا بل محط شك وريبة، تصل في بعض الأحيان درجة الاتهام، لأكثر من سبب.
إن الآنية هي ما يجعل للخبر قيمة في الوقت الذي ينشر فيه، وبذلك يكون معيار تمييز عمل الصحافي عن عمل المؤرخ هو الآنية والعجلة، لأنه يتعامل مع الحدث لحظة وقوعه، مع ما يستتبع ذلك من إكراهات، كعدم القدرة على اتخاذ مسافة من الحدث الذي يكتب عنه وفيه، ما تنعكس غالبا على قيمة أوراقه ونوعيتها.
استند بعضهم إلى هذا، للقول "إن مهمة الصحافي ومهمة المؤرخ على طرفي نقيض؛ فدور الأول أن يكتب ويسجل ويعلق على حدث الحاضر، بينما يكمن دور الثاني ومهمته في البحث والتنقيب عن أحداث الماضي".
يستند المؤرخ الفرنسي هنري لورنس إلى الزمن في معرض تمييزه بين المؤرخ والصحافي وعالم السياسة فيقول "الفرق هو الزمن، الصحافي والسياسي عليهما أن يعملا على مادة اللحظة، ولا وقت كافيا لديهما لتحليل الحدث والتأمل فيه. أما المؤرخ فيتحالف مع الوقت ويراهن عليه".
بذلك يكون خيط رفيع فاصل بينهما أساسه الزمن، لكن هذا الأخير في النهاية عملية مستمرة لا تخضع لأي تحديد إلا وفق ما يقرر أن يوضع لها. فلا بد أن يختلط الدوران في آن، ويتمم بعضهما بعضا في آن آخر.
تذهب المفكرة حنة أرندت إلى أن عمل الصحافي يبقى اللبنة الأولى لأي تراكم معرفي لاحق، بقولها "بدون ما يقوم به الصحافيون لا يمكن أن نعثر على موقعنا في عالم متغير بشكل دائم، وبالمعنى الأكثر أدبية، ولن نعرف أبدا أين نوجد. فالعالم اليوم ليس سوى مركب الأخبار التي تصلنا في كل لحظة".
أكثر من هذا، يعد الكاتب والصحافي إريك دوبان التفاعل الآني للصحافي مع الحدث، وتأويله له إبان وقوعه، يضفي نوعا من الإثارة على عمله، قلّ أن تتوافر لغيره من الذين يشتغلون بالبحث في بقية العلوم الإنسانية.
أفضلية وتميز حفزا بعض الصحافيين على الانتقال من الوظيفة التقليدية ممثلة في نقل الأخبار إلى اجتراح آفاق جديدة في التأريخ، لما يعرف بالزمن الراهن أو الساخن أو اللحظي، عادين الأخبار والشهادات، ومختلف الوثائق المكتوبة والسمعية والبصرية والمصورة التي يقدمونها مادة يمكن أن تدخل في نطاق تاريخ الزمن الراهن.
لقي ما تم إنتاجه من قبل الصحافيين المؤرخين، استخفافا وتجاهلا من لدن المؤرخين المحترفين، لكن ذلك لم يثن هؤلاء عن مواصلة الخوض في قضايا التاريخ الراهن، دون أن يدعوا أنهم مؤرخون أو ينسبوا لما أنتجوه الصفة التاريخية.
في معرض الدفاع عن التأريخ الصحافي، كتبت الصحافية الفرنسية صوفي كاردينال تقول "أنا لست مؤرخة، ولا أمتهن التاريخ. لكني أحكي قصصا". فهي ترى أن آفاق الصحافيين أضيق من المؤرخين؛ "نحن نتعامل مع الآني، بينما يأخذ المؤرخون الوقت الكافي لإعادة بناء كرونولوجيا أحداث لفهمها، وهذا دورهم وليس دورنا.. شروط عمل الصحافي تختلف جذريا عن شروط المؤرخ، فالصحافي يفكر في إطار الصورة وزاوية التقاطها في الحين وفي شروط صعبة. وفي مرحلة "التوضيب"، يأخذ بعض المسافة، لكن ليس بالقدر نفسه عند المؤرخين، لأن دورهم مهم لتدقيق الأمور، وهنا تكامل بين المهنتين".
في المقابل، برز عديد من الأسماء في حقل التاريخ، للدفاع عن هذا المبحث المعرفي الجديد، في محاولة منهم لتجسير الفجوة بين التاريخ والصحافة، أمثال المؤرخ الفرنسي الكبير روني ريمون، والمؤرخين الفرنسيين شارل أندريه جوليان وجاك جوليار، الذي انقلب صحافيا محترفا بعدما كان مؤرخا محترفا.
عربيا، يعد المؤرخ عبدالله العروي واحدا ممن استوقفتهم أسئلة تاريخ الزمن الراهن، أو "التاريخ الفوري" كما يطلق عليه، معلنا رفضه ما ينعته بـ "تاريخ الصحافيين". فدور الصحافي - بحسب العروي - يقتصر على نقل الأحداث والوقائع، وجمع أكبر قدر من المعلومات والأخبار عن الحدث الذي يغطيه، مع الحيطة والحذر بشأن مصداقية المصادر والمعلومات، حتى لا يسقط في فخ الأخبار الزائفة.
يجد قارئ مؤلفات العروي الأخيرة، خصوصا منها؛ "السنة والإصلاح" (2008) و"ديوان السياسة" (2009) و"استبانة" (2016) أن الرجل جمع بين التاريخ والصحافة، ما يجعله مساهما من حيث لا يدري في التأريخ الصحافي، فقد اتبع منهج مساءلة الذات بصور مختلفة.
ففي الكتاب الأخير على سبيل المثال، يحاور العروي نفسه بطرح الأسئلة التي يمكن أن يقترحها الصحافي، ويجيب عنها بعد فحص وتأمل، حسب تسلسل التاريخ والمنطق. جاء هذا الحوار الثنائي في مائة و11 سؤالا، يطرحها على نفسه، ويجيب عنها في آن واحد، مع الإشارة إلى خلو "استبانة" العروي من المقدمة واستغنائها عن الخاتمة.
يجد المؤرخون اليوم أنفسهم أمام إكراهات جديدة، تفرضها تحولات الثورة التكنولوجية "السرعة، الإشاعة، والدقة..."، إذ لا يمكنهم البقاء على الهامش في وقت تكتسح فيه العالم. وفي المقابل، هم مطالبون أكثر من أي وقت مضى، بقدر عال من اليقظة والحيطة.
من جانبهم، يجد الصحافيون أنفسهم أمام سيل جارف من الأخبار بفضل منصات التواصل الاجتماعي المتنوعة، ما دفع طائفة منهم إلى البحث عن صيغ لإخراج أصحاب مهنة المتاعب من سباق محموم أساسه مجاراة هذه المنصبات في نفي وتأكيد ما يروج فيها من أخبار وشائعات.
صفوة القول إذن إن نقط الاشتباك بين الصحافي مؤرخ اللحظة والمؤرخ المحترف، ستزداد في غمرة التطورات المتلاحقة، ما يحتم على النبهاء من كلا الطرفين الوعي بذلك واستثماره، على غرار ما فعل كل من الراحل محمد حسنين هيكل؛ مؤرخ مصر الحديثة وكبير الصحافيين فيها، والراحل محمد العربي المساري؛ الصحافي والنقيب والكاتب والمؤرخ والوزير والدبلوماسي.

الأكثر قراءة