أهم التوجهات الكونية استثماريا
مع بداية كل عام تنشر بيوت الاستشارات والمال والمصارف الكبيرة قراءتها وتوقعاتها للتحولات الاقتصادية والمالية والسياسية والتقنية المستقبلية وتبعاتها لصناع القرار والمستفيدين. اخترت هذه المرة بحثا مختصرا لـ"بلاك روك" BLACkRoCK - أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم. يتحدث البحث القصير عن توجهات كبرى وليس توقعات محددة من خلال عدسة استثمارية. يقال دائما إن فهم السياق والتحولات أهم من الجزئيات والتفاصيل، فالغابة أهم من الأشجار، فمن يصيب الجزئية ويخطئ الموجة يخسر، ومن يركب الموجة ويخطئ الجزئية يقلل الخسائر على الأقل. في ظل المتغيرات المتسارعة علميا وتقنيا، ينسى البعض أن الكهرباء بدأت فقط مع نهاية القرن الـ19 والتي بها استهلت الثورة الصناعية الثانية "حديثة جدا قياسا على تاريخ البشرية الموثق منذ نحو عشرة آلاف سنة". اليوم نقف على عتبة تغير جذري مادته السيطرة على "المعلومات"، ولعل أهم ما يجمع هذه التوجهات الخمسة هو دور المعلومات المحوري.
الأول، التطورات التكنولوجية التي عبر عنها كلاوس شواب مؤلف كتاب الثورة الصناعية الرابعة "سبق وأن نشرت مراجعة للكتاب"، وأسماها الثورة الرقمية، التي تنمو بمعامل تضاعف؛ حيث ستكون التبعات الاقتصادية عميقة وشاملة، فالناس ستستبدل بالآلات، والذكاء الاصطناعي وسيمكن الآلات من التعلم أسرع من الناس. تتوقع شركة Gartner أن تصل "الأشياء" المرتبطة بالشبكة العنكبوتية من سبعة مليارات في 2014 إلى 26 مليارا في 2020، وهذه البداية فقط.
الثاني، التغير السكاني والاجتماعي. التغير في التركيبة السكانية والاجتماعية سواء على مستوى الأعراق أو الجغرافيا الاقتصادية بما تحمل من تبعات للحكومات والأعمال. طبقا للأمم المتحدة سيزيد سكان العالم مليارا حتى 2030، 80 في المائة من منهم أقل من 60 عاما من العمر، سيكونون في الدول النامية. اليابان هي البلد الوحيد الذي أكثر من 30 في المائة من سكانه يبلغون 60 عاما، لكن في 2050 سيكون هناك 55 بلدا. لهذا التطور عدة تبعات، لعل أهمها تزايد المصروفات الصحية، التي يقدر أن تزيد في أمريكا وحدها 3.4 تريليون كل سنة حتى 2040، والتأثير الآخر في فجوة التوفير للتقاعد حيث يقدر WEF أن تزيد 28 مليارا كل يوم لأكبر ثمانية اقتصاديات في العالم، وفي 2017 هناك أربعة متقاعدين لكل عامل، بينما في 2050 يقدر أن يكون هناك ثمانية.
الثالث، تغير دول النمو والقوة الاقتصادية. 80 في المائة من النمو في الاقتصاد العالمي و85 في المائة من الاستهلاك مصدره الدول الناشئة. قال نابليون، إن الصين عملاق نائم إذا استيقظ سيحرك العالم، وهذا ما حدث فعلا، فقبل 15 سنة كان اقتصاد الصين نحو 10 في المائة من اقتصاد أمريكا، وإذا استمر النمو كما هو متوقع فسيكون أكبر من أمريكا بعد نحو عشر سنوات. في 2025 ستكون هناك 200 مدينة في الصين بسكان أكثر من مليون. النمو السكاني هو قلب القوة الاقتصادية، بما في ذلك أهمية اللغة الصينية.
الرابع، التغير المناخي وشح الموارد. كثر النقاش عن التغير المناخي وتبعاته، لكن تذكر "فاو" أن سكان العالم في 2050 سيتعدى تسعة مليارات، ما يجعل المنظومة الزراعية غير قادرة على تغذيتهم جميعا. تقدر الأمم المتحدة أن الفجوة بين عرض وطلب مياه الشرب ستصل إلى عجز 40 في المائة في 2030. كما أن سطح الأرض يزداد حرارة منذ نهاية القرن الـ19 ويتوقع أن تستمر. تذكر الأمم المتحدة أنه لابد من تغيرات غير مسبوقة في الاستهلاك والإنتاجية كي يتم تدارك أزمات مؤثرة. أحد أهم التبعات، نمو الطاقة المتجددة، فبكين أصبحت أول مدينة في الصين تولد كهرباء دون الفحم.
الخامس، الهجرة إلى المدن. كلما زادت وسائل التواصل تقارب الناس أكثر. في 1990 كانت هناك عشر مدن ضخمة "فيها أكثر من عشرة ملايين شخص"، واليوم هناك 28 مليونا. في 1950 كان 33 في المائة فقط من سكان العالم في المدن، وفي 2050 سيكون هناك 66 في المائة. أهم التبعات تقليل التكاليف وازدياد الأعمال التجارية، فمثلا في الصين يبلغ دخل الفرد في المدن ضعف دخله في الريف، ويعد أحد التوجهات ظهور المدن الذكية، فالصين تبني مدينة جديدة أكبر من منهاتن وسنغافورة جنوب بكين.
نادرا ما نتوقع التحولات الكبيرة، فهي اتجاهات نعرف أنها ستغير العالم، لكن يصعب تقدير الحجم والتوقيت بدقة. لذلك، لما يكون الاستثمار هو الهدف، لابد من الصبر والتمكن من عملية صنع القرار. نعيش في عالم يحكمه التغير التقني المتسارع، وستأخذ هذه التوجهات أبعادا أخرى، ويصعب توقع أهميتها بعد عدة سنوات، لابد أن تتدخل ظروف وعوامل أخرى ربما تكون أكثر أهمية، لكن الوعي بالتوجهات الكبرى بما يعقبها من تحليل عقلاني للجزئيات والشركات يساعد كثيرا على التمركز الاستثماري.