رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


عقلية الابتكار .. وطريق المستقبل

كلمة "عَقَلَ" في لغتنا العربية الجميلة فعل يحمل معنى يقول: "أدرك حقائق الأشياء وميزها"؛ والقول "عَقَلَ الأمر" يعني "فهمه وأدرك حقيقته وفكّر في شؤونه". أما كلمة "عَقْل" فهي مصدر "عَقَلَ"، وتعني "مركز الفكر والحكم والفهم والمخيلة والتفكير والاستدلال" في الإنسان. وتنسب كلمة "عقلي" إلى العقل، وتأتي كلمة "عقلية" كاسم مؤنث منسوب إلى العقل أيضا. وإذا انتقلنا إلى اللغة الإنجليزية، الأكثر تداولا على مستوى العالم، لوجدنا أن كلمة "عَقْل Mind" تعني "العنصر في الإنسان الذي يمكنه من إدراك العالم والتفكير في شؤونه والإحساس واكتساب الخبرة". أما كلمة "عقلية Mindset" فتعني "طريقة الإنسان في التفكير وتكوين الرأي"؛ أي طريقته في استخدام العقل.
ترتبط العقلية، على أساس ما تقدم، "باستخدام العقل"، ويتأثر هذا الاستخدام "بالبيئة المحيطة" بما يشمل "القيم والثقافة والمعرفة" في جانب، و"التوجهات والإجراءات التنظيمية" في جانب آخر. ولم تعد البيئة المحيطة بالإنسان محلية فقط، بل باتت عالمية أيضا، خصوصا مع التأثير المتزايد "للإنترنت والفضاء السيبراني" في حياة الإنسان أينما مكان.
نريد في هذا المقال أن نبحث في مسألة تفعيل التوجه نحو "الابتكار" في عقلية الإنسان. والمقصود "بالابتكار Innovation"، تبعا للمصطلحات المتعارف عليها حاليا، هو إطلاق "المعرفة المفيدة القابلة للتطبيق"، أو لعلنا نقول "المعرفة الحية"؛ مع العمل على تفعيل استخدامها والاستفادة منها اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، عبر تقديم منتجات أو أساليب تقنية مفيدة تحتاج إليها السوق، أو عبر إعطاء حلول متميزة لمشاكل اجتماعية وإنسانية تسهم في سعادة المجتمع وتفعيل إمكاناته.
ولا يقتصر الاهتمام "بعقلية الابتكار" المنشودة على التوجه نحو العمل على بناء هذه العقلية في الأجيال الصاعدة فقط، بل على التوجه نحو نشرها بين الأجيال القائمة أيضا، فالطموح هو الوصول بها إلى الجميع؛ لأنها باتت ضرورة للمجتمعات الحديثة. وسنناقش هذا الأمر فيما يلي من خلال ثلاثة محاور رئيسة. يتساءل أولها عن أهمية "عقلية الابتكار" في الحياة، خصوصا في عصر التنافس المعرفي الذي نعيش فيه. ويطرح المحور الثاني مسألة بناء هذه العقلية لدى الناشئة وتمكينهم منها. ويهتم المحور الثالث بإيصال هذه العقلية إلى الآخرين، وتحفيزهم على تفعيلها في حياتهم، والسعي إلى الاستفادة منها.
نجد في المحور الأول أن "عقلية الابتكار" تحتاج إلى جميع وظائف عقل الإنسان. "وظائف إدراك الحقائق وفهمها واستيعاب مضامينها" مهمة وضرورية ومطلوبة، لكنها غير كافية. وظائف "التفكير والتخيل والاستدلال، وبالتالي توليد المعرفة" أساسية أيضا، وتحتاج عقلية الابتكار إلى تفعيلها، ثم هناك مسألة توجيه جميع هذه الوظائف نحو المعرفة الحية القابلة للتطبيق، وتقديم الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. ويحتاج هذا الأمر إلى بيئة مناسبة، فالمعرفة الحية، مهما كانت مفيدة تبقى عاطلة عن عطائها المنشود، ما لم يفعلها الاستثمار، وتعززها المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات والأفراد، خصوصا أصحاب التميز منهم. وإذا كان العطاء الاقتصادي للفوائد الاجتماعية والإنسانية لا يبدو واضحا، فلا بد من ملاحظة أنه قائم بالفعل؛ لأن المجتمع المتطور أكثر قدرة على العطاء الاقتصادي في شتى المجالات.
تأتي أهمية "عقلية الابتكار"، على أساس ما سبق، من أنها وسيلة رئيسة للتنمية. ولأنها صفة ترتبط بالإنسان، فإن توسيع مدى انتشارها بين الناس في المجتمع، يزيد من ظهور معطياتها المبتكرة، وما تحمله من فوائد، ويعزز قدرة مجتمعها على المنافسة على المستوى الدولي. وسننتقل فيما يلي إلى محوري نقاش عقلية الابتكار الثاني والثالث المرتبطين بتوسيع دائرة انتشار هذه العقلية.
يتطلع محور النقاش الثاني إلى بناء "عقلية الابتكار" في الأجيال الناشئة؛ أي في الطلاب والطالبات في مختلف مراحل التعليم من الروضة حتى الجامعة. ولعله يلاحظ أن جل مناهج التعليم، على مختلف المستويات، تحتاج من العقل إلى وظائف "إدراك الحقائق وفهمها واستيعاب مضامينها"، ولا تعير وظائف "التفكير والتخيل والاستدلال وتوليد المعرفة" الاهتمام الذي تستحق. وإذا كان هناك من استثناء، فلعله يأتي في الرسائل البحثية في مراحل الدراسات العليا؛ أي أنه يأتي متأخرا جدا، وفي إطار فئة محدودة من الأجيال الصاعدة. والمطلوب هو تطوير التعليم في مراحله المختلفة في اتجاه استخدام جميع وظائف العقل، ولا شك أن هذا الاستخدام، وابتداء من الروضة، يعطي أجيالا متجددة من المبتكرين القادرين على العطاء المعرفي المتميز.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك بحوثا متميزة ترصد "عقلية الناشئة" في مراحل التعليم، وتسعى إلى تطويرها وتنمية إمكاناتها. ولعل أشهر هذه البحوث تلك الصادرة عن المجموعة البحثية في جامعة ستانفورد التي تقودها "كارول دويك Carol Dweck". وتطرح هذه المجموعة ما تسميه "العقلية الجامدة Fixed Mindset"، التي يعززها التعليم التلقيني القائم بدرجة عالية حاليا، وتدعو إلى "العقلية النامية Growth Mindset" المطلوبة، التي تشجع التفكير والمثابرة وتنمية الإمكانات الذهنية؛ أي استخدام "جميع وظائف العقل"، وتعزيز نموها، وتفعيل الاستفادة منها.
ونصل إلى محور النقاش الثالث الخاص بنشر "عقلية الابتكار" بين الآخرين في المجتمع، وهؤلاء هم القوة العاملة في المجتمع، والقوة المؤثرة في مستوى الأسرة أيضا. يبرز في هذا المجال دور الثقافة والإعلام من ناحية، ودور المؤسسات، العاملة في مختلف المجالات، من ناحية ثانية. فالثقافة والإعلام، عبر الأجهزة الرقمية، زائران دائمان لكل فرد ولكل منزل. كما أن المؤسسات تستطيع تفعيل الابتكار على مستوى موظفيها، وعبر المسؤولية الاجتماعية على مستوى المجتمع بأسره. تستطيع هذه المؤسسات إجراء مسابقات دورية للابتكار في مجالاتها المختلفة، حتى بما يشمل تطويرها الذاتي، وتقديم جوائز تشجع الجميع على استخدام كل وظائف العقل، وصولا إلى الابتكار المتميز المنشود. وتستطيع هذه المؤسسات أيضا عبر المسؤولية الاجتماعية، بل عبر رأس المال الجريء أيضا، أن تستثمر في الأفكار المبتكرة لتوسيع دائرة العطاء المعرفي والقدرة على المنافسة.
إن "عقلية الابتكار" قضية مستقبلية رئيسة على كل المستويات، ابتداء من الفرد مصدر كل ابتكار، إلى المؤسسة الراعية للمبتكرات والمستفيدة منها، وكذلك المجتمع الذي يتطلع إلى الابتكار والاستثمار فيه طريقا للتنمية، وتعزيزا لاستدامتها، وتحقيقا للرخاء، والإسهام في الحضارة الإنسانية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي