معضلة المستقبل .. معارف غزيرة وأعمار قصيرة
لن تبقى حكمة الفيلسوف الروماني شيشرون (106-43 ق م) "بعض الوقت لأصدقائك، وبعض الوقت لأهلك، وبعض الهدوء لنفسك، وبعد ذلك لا تخف على مستقبلك" صالحة للأجيال المقبلة، فالخوف من المستقبل أضحى اليوم هما مشتركا، يتقاسمه الصغار والكبار بدرجات متفاوتة، كل من زاوية نظره إلى مجهول نلج إليه بلا خريطة هادية أو بوصلة مرشدة.
مع ضرورة الإشارة إلى تحول جوهري؛ غالبا ما لا يسترعي الانتباه، مفاده الانتقال في الزمن الراهن إلى "الخوف من المستقبل"، عوضا عن "الخوف على المستقبل" الذي ساد على مدار الأزمنة الماضية، ولا حاجة هنا إلى الخوض في تبيان الفوارق الشاسعة القائمة بين الأمرين.
عودا إلى مقولة الحكيم شيشرون، التي أمَّن فيها مستقبل الإنسان بواسطة عملية تشطير للوقت إلى ثلاثة أجزاء بين النفس والأهل والأصدقاء، للقول إن ما أقدَمَ خطيب روما على تقسيمه سيكون معضلة العصور المقبلة بلا منازع.
إن فكرة "أشياء عليك فعلها قبل الموت" التي ظهرت في أوساط المجتمعات "المتقدمة" قبل عقود خلت، وكانت حينها محط سخرية واستهزاء الكثيرين، وتلقتها مختلف الشعوب في باقي أركان العالم باستغراب وكثير من الاستهجان، أضحت الآن حقيقة ويقينا مطلقا يفرض علينا نفسه.
فطبقا لمنحى تضاعف المعرفة البشرية الذي يعود العمل به، أوائل سبعينيات القرن الماضي، إلى المخترع والمصمم المعماري الأمريكي ريتشارد بوكمينسيتر فوللر Richard B Fuller، كانت المعرفة الإنسانية حتى بداية القرن العشرين تتضاعف كل قرن ونصف تقريبا. وبعد الحرب العالمية الثانية كل ربع قرن، أما الآن فهي تتضاعف كل سنة أو سنتين، وقريبا ستتضاعف كل 12 ساعة.
فيما تذهب أحدث الدراسات التي يقدمها خبراء المستقبليات إلى أن المعرفة المتاحة حاليا في زمن الشبكات وعصر الرقمنة والتكنولوجيا تتضاعف بالفعل حاليا كل سبع سنوات، ومن المتوقع أن يستمر منحى التضاعف ليبلغ مداها عام 2030 بتسجيل التضاعف كل 72 يوما.
بصرف النظر عن التفاوت الملاحظ بشأن هذه الأرقام، يبقى الواضح والمؤكد أن الإجماع قائم لجهة ارتفاع منسوب التراكم المعرفي، وتسارعه بمعدل غير مسبوق يفوق قدرة النظريات على التحليل والتفسير.
قراءة هذه الازدياد المستمرة للتطور المعرفي؛ في مسار البشرية بشكل سريع، تكشف على أن الإنسانية في مستوى التحديات. وأن العقل البشري في أوجه عطائه، بقدرته على تحطيم أرقام قياسية باستمرار، فيما يتعلق بمضاعفة المعارف؛ فقد استطاع كل جيل تقليص النطاق الزمني الذي تسجله الأجيال التي سبقته.
بيد أن قراءة ما وراء السطور من خلال تغيير زوايا النظر إلى المعلومة، تظهر أن ثمت أشياء أخرى غير سارة للأجيال المقبلة. إذ بذات المقدار التي تتضاعف فيه هذه المعارف، سيزداد الوقت اللازم للوقوف على المعلومة، في ركام معارف لا متناهية.
إن عبارة "ليس لدي وقت" التي تقال اليوم في ظروف خاصة واستثنائية، ستصير قاعدة عامة لدى الأجيال المقبلة. بمعنى آخر ستصبح قلة الوقت المبدأ والأساس بالنسبة لهؤلاء، في المستقبل سيدرك كثيرون عدم وجود وقت كاف لقراءة كل شيء، وسماع كل شيء، ورؤية كل شيء، وزيارة كل شيء، وتعلم كل شيء... إلخ.
لكن النزعة الاستهلاكية التي أضحت عصب الاقتصاد الحديث لن تسمح للوقت بالحد منها لها، فبدأ النظام التجاري تدريجيا يحث على تخزين البضائع الملتهمة للوقت (كتب، أسطوانات، أفلام...) بطريقة افتراضية، وبذلك يدخلنا في تراكم غير محدود ووهمي، بدون أي إمكانية لاستعماله، وكأن هذا التخزين يستعمل في إيهام كل فرد أنه لا يجب أن يموت بدون قراءة كل هذه الكتب، وسماع كل تلك النغمات ومعايشة هذا الوقت المخزون هباء.
قد تبدو الفكرة غريبة بعض الشيء، حتى وإن كنا نعيش على إيقاعها بلا وعي منذ دخلنا عصر التكنولوجيا، وصرنا زبائن أوفياء للسوق الرقمية. فما أكثر الكتب الإلكترونية التي نحتفظ بها في مكتباتنا افتراضية، وما أكثر الملفات الموسيقية التي نجمعها في حواسبنا... وهلم جرا مما نتولى تخزينه بهوس، مستغلين الوفرة والسهولة اللتين تتيحهما وسائل التقنية الحديثة.
إن عملية حسابية بسيطة بهذا الشأن، ستكشف أن الواحد منا، يحتفظ في مختلف أجهزته الرقمية بمعارف إنسانية، يتطلب اكتشافها سنوات عديدة. وقد لا نبالغ حين القول، إنه قد لا يتمكن من إتمام الاطلاع عليها لو أنفق ما بقي من عمره.
يرفض المتفائلين بالمستقبل هذه الادعاءات، معتبرين أن العلم سائر في اتجاه إطالة أمد الحياة؛ وأن الرهان سيكون على معدل يصل إلى 125 سنة، وعلى تقليص ساعات العمل إلى 25 ساعة في الأسبوع، ما يتيح الفرص أمام هذه الأجيال لاستمرار الفراغ في الاستمتاع باكتشاف ما يُفتقد الوقت اليوم للقيام به.
مهما يكن من أمر، بشأن صحة هذه الدفعات (الزيادة في أمد الحياة) التي لها تبعات أخرى على مناحي أخرى في حياة الإنسانية، يبقى المؤكد قطعا أن موضوع الوقت الذي أصبح اليوم فكرة ملحة، سيكون مستقبلا، واقعيا، الحقيقة الوحيدة النادرة فعلا، فلا أحد يستطيع إنتاجه، ولا أحد يستطيع بيع ما لديه منه، ولا أحد يستطيع ادخاره.
حينئذ ستتحول حكمة شيشرون عن توزيع الوقت بين الآخرين لتأمين المستقبل إلى مجرد نكتة تتناقلها الألسن؛ إذ كيف يعقل تقسيم شيء نادر ونفيس وثمين مثل الوقت.