الابتكار في التعليم العالي .. نحو تعزيز التنمية المستدامة
عنوان هذا المقال هو ترجمة لعنوان الفصل الخامس، الذي أسهمت به في كتاب سيصدر - بمشيئة الله - مطلع عام 2019، عن دار النشر إيميرالد Emerald. يحمل الكتاب عنوانا أوسع نطاقا من عنوان الفصل، ترجمته كالتالي: "مستقبل الابتكار والتقنية في التعليم.. السياسات والممارسات للتعليم والتعلم المتميز"، وفيه فصول مختلفة أسهم بها مهتمون من مختلف أنحاء العالم. ويسعى هذا المقال إلى تقديم نبذة عن الفصل للقارئ الكريم؛ لبيان أهمية التفاعل بين التعليم العالي والابتكار والتنمية المستدامة، والتأكيد على ضرورة توجه أصحاب المعرفة المتجددة نحو التنمية المستدامة والاهتمام بها وبمعطياتها؛ لأن أهميتها لا تقتصر على الأجيال المعاصرة فقط، بل تشمل الأجيال القادمة أيضا.
يرى الفصل إن العلاقة بين الابتكار والتعليم العالي والتنمية المستدامة - علاقة تشمل "هدفا، ووسيلة لتحقيق هذا الهدف، وممكنا أو مولدا لهذه الوسيلة". الهدف هو "التنمية المستدامة" التي نحتاجها، والوسيلة هي "الابتكار" الذي يفعل حركة التنمية المستدامة ويسهم فيها، والممكن أو المولد لهذه الوسيلة هو "التعليم العالي". ويضاف إلى ذلك أن الربط بين الثلاثة يحتاج ليس فقط إلى استراتيجية تقوم بذلك، بل إلى حماس وانحياز من أصحاب العلاقة نحو إدراك أهمية اكتساب، وكذلك إطلاق، المعرفة المفيدة الجديدة أو المتجددة، وضرورة الاستفادة منها في التنمية، وكذلك الحاجة إلى استدامتها. ولا شك أن المسؤولية تقع على عاتق الإنسان: هو المسؤول عن التعليم، وهو من مخرجاته، منه الابتكار، ومنه توجه الابتكار نحو التنمية والاهتمام باستدامتها، هو صانع معطيات التنمية المستدامة، وهو وأبناؤه في الأجيال القادمة المستفيدون منها.
في طرح العلاقة بين الابتكار والتعليم العالي والتنمية المستدامة، يبدأ الفصل بهدف هذه العلاقة؛ أي "بالتنمية المستدامة". ولهذه التنمية جانبان: جانب التنمية ذاتها، ثم جانب استدامتها. إذا بدأنا بجانب التنمية، نجد أن تنمية أي وحدة استراتيجية، أيا كانت، ابتداء من الفرد إلى الأسرة فالمؤسسة، وصولا إلى الدولة والعالم بأسره - هي "الإجراء" الذي يؤدي إلى "نمو أو تطوير أو تغيير" هذه الوحدة وجعلها أفضل، وذلك في "موضوع التنمية المستهدف"، الذي قد يكون اقتصاديا أو ثقافيا أو اجتماعيا أو إنسانيا أو يرتبط بأي مجالات حيوية أخرى.
ونأتي إلى الجانب الثاني، وهو جانب اقتران التنمية "بالاستدامة"، والمقصود هنا ألا تكون التنمية مؤقتة أو محدودة بفترة زمنية؛ حيث تتوقف عجلة النمو والتطوير بعد ذلك، بل أن تكون مستمرة. وهناك ثلاثة موضوعات رئيسة لاستدامة التنمية متعارف عليها على المستوى الدولي. أول هذه الموضوعات هو استدامة "التنمية الاقتصادية"، ويشمل ذلك بشكل رئيس القدرة على توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة بشكل مستمر، ويحتاج هذا الأمر إلى قدرة متواصلة على المنافسة، وتقديم معطيات متجددة دون انقطاع، تستجيب لمتطلبات السوق ومتغيراتها، أو بما تحرك السوق وتجذبه في اتجاهها.
الموضوع الثاني المتعارف عليه في "التنمية المستدامة" هو استدامة "البيئة"، وبذل الجهود للمحافظة على نقائها. ويشمل ذلك نقاء الهواء ونظافة المياه، والامتناع عن الأعمال التي تسبب التلوث، وتفاقم الاحتباس الحراري، وتوسع ثقب الأوزون، إضافة إلى الاهتمام بالحياة الفطرية والثروات الطبيعية. فالبيئة الطبيعية المناسبة متطلب رئيس للاستدامة، بل حق لأبناء الأجيال القادمة على الأجيال القائمة. ونصل إلى الموضوع الثالث، وهو استدامة "التنمية الاجتماعية"، التي تسعى إلى الارتقاء بحالة الإنسان والمجتمعات، بما يشمل: صحة الإنسان، وأمنه الغذائي، والتعليم الذي يتلقاه، ومشاركاته الاجتماعية، والعمل التطوعي. فالإنسان الواعي المدرك ما حوله هو المحرك الأساس لشتى موضوعات التنمية والضامن لاستدامتها.
يحتاج تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها إلى وسائل، وهنا يبرز دور "الابتكار" الذي يسعى إلى "تقديم أفكار حية قابلة للتطبيق، وتحمل قيمة" تسهم في مختلف موضوعات التنمية الرئيسة الثلاثة "الاقتصادية والبيئية والاجتماعية". "الابتكار التقني" يعطي تقنية أو أساليب تقنية جديدة، تحمل قيمة قابلة للانتشار. و"الابتكار الناعم" يقدم منتجات أو خدمات جاذبة في السوق، تتميز في "الشكل" وليس بالضرورة في "المضمون". و"الابتكار الاجتماعي" يعطي حلولا جديدة أو متجددة لمشاكل اجتماعية أو اقتصادية أو بيئية. وهناك أيضا "الابتكار المفتوح"، الذي يسعى إلى تفعيل الابتكار داخل المؤسسات التعليمية، والتعاون مع الجهات التطبيقية لتعزيز الاستفادة منه.
ونصل إلى "ممكن" أو مولد "الابتكار" المطروح هنا؛ أي "التعليم العالي"، فقد كان هذا التعليم على مدى الزمن "مصدرا رئيسا للعطاء المعرفي والابتكار"، الذي كان يأتي حصيلة مهماته الرئيسة الثلاث. وتشمل هذه المهمات: التعليم والتدريب، والبحث العلمي والتطوير، والتفاعل مع المجتمع والاستجابة لمتطلباته. مهمة "التعليم والتدريب" تقدم للإنسان قاعدة معرفية تمكنه من التفكير وتقديم أفكار جديدة، ويتعزز ذلك "بالبحث العلمي والتطوير"، ثم بالتفاعل مع المجتمع والاستجابة لمتطلباته. وهنا يبرز هدف "التنمية المستدامة"، الذي يقضي بتوجيه مهمات التعليم العالي نحو الابتكار، والإسهام في التنمية المستدامة "الاقتصادية والبيئية والاجتماعية"؛ حيث يكون محور أداء التعليم العالي متمثلا في مدى هذا الإسهام. ويحتاج هذا الأمر بالطبع إلى توجيه مهمات هذا التعليم نحو خطط تقوم باستهداف متطلبات تفعيل التنمية بكل أشكالها، والعمل على تعزيز استدامتها.
يدعو الفصل المطروح هنا إلى تفعيل ثلاثية "التعليم العالي والابتكار والتنمية المستدامة". خريجو التعليم العالي، وبحوث التعليم العالي، وعلاقة التعليم العالي بمؤسسات المجتمع يجب أن توجه نحو القدرة على الابتكار، وتوليد المعرفة الحية التي تحمل قيمة متجددة ومنافسة، تسهم في التنمية وتفعل استدامتها "اقتصاديا وبيئيا واجتماعيا". كل أنواع الابتكار مطلوبة: الابتكار التقني الوظيفي للمنتجات والأساليب، والابتكار التقني الناعم، والابتكار الاجتماعي، والابتكار التعاوني المفتوح، وأي أسلوب آخر يقدم مبتكرات مفيدة.
في الختام، يعطي الفصل أربع توصيات رئيسة: أولاها في صفات خريج التعليم العالي، وأثر هذه الصفات في التنمية والارتقاء بالمجتمع، والثانية في توجه المعطيات المعرفية المتجددة للتعليم العالي نحو موضوعات التنمية المستدامة، والثالثة في ضرورة الالتزام بمتطلبات البيئة، والابتعاد عن تلوثها، والرابعة في التعاون، على الدولي المستوى؛ لجعل العالم مكانا أفضل للأجيال القادمة.