تعليم الفلسفة .. حصن فكري يتصدى للتطرف
أعاد الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى إلى الواجهة الحديث عن تعليم الفلسفة في المدارس والجامعات، بعد كشفه عن "شغفه" بالفلسفة، وهي مطالب ثقافية تطفو على السطح بين فينة وأخرى، ثم ما تلبث وتعاود غيابها الطويل.
العيسى كشف في حوار صحافي لمجلة "الرجل"، نُشر قبل بضعة أسابيع، أن هوايته القراءة والتحليل والمناقشة والحوار الفلسفي والفكري، وهو ما يؤكد دور الفلسفة في نشر القيم الإنسانية، ودورها في محاربة التطرف الفكري، الذي يؤسس للإرهاب والعنف.
حل للمشكلات الفكرية
شخصية بثقل وقيمة الشيخ العيسى، تلقي بظلالها على النقاش المتداول حول إدراج الفلسفة في المناهج التعليمية، خصوصا أن الفلسفة حوربت فيما مضى، وتحديدا في المجتمعات العربية، لكنها باتت مطلبا، كونها تقدم حلولا للمشكلات الفكرية، بعد جدل ونقاش حولها يسهم في رقي الإنسان وازدهاره.
الفلسفة في معناها هي كلمة يونانية تعني محبة الحكمة، وتعني علم حقائق الأشياء، والعمل بما هو أصلح، وكانت من العلوم التي اهتم بها المسلمون قديما رغم فارق اللغة والثقافة والمسافات، حتى نشأ مصطلح في ذلك الوقت باسم "الفلسفة الإسلامية"، الذي عُني بنقل المفيد من الفلسفة، والابتعاد عن المفاهيم الدينية اليونانية، الوثنية في مبدئها، والمليئة بالخرافات والأساطير، وناقشت قضايا فكرية مثل نشأة العالم والروح والنفس وبدء الخلق والقيم الإنسانية، من بوابة المنطق وربط ذلك بالقرآن الكريم والسنة النبوية.
تقوم الفلسفة، وما يتعلق بها من تفكير فلسفي، على إعلاء قيم التأمل، والتفكر، والتسامح، والسلام، والتعدد الثقافي، وتحرر العقل من قيوده الفكرية، التي تفرض قيودا على قيم التعدد والتسامح والتنوع، وتعزز منطق التعصب، والكراهية وإنكار الآخر، وهي قيم تجذرت في عقول البعض، باعتبارها مسلمات أو قيم مستنسخة.
تجربة غير ناضجة
عند الحديث عن تعليم الفلسفة في المدارس والجامعات، ينتقل بنا الحديث إلى التجارب العربية، مثل تجارب دول خليجية، وأخرى في شمال إفريقيا، أدرجت الفلسفة كمادة تعليمية، تتخللها ورشة نقاش، وأسئلة وحوار بين المعلم وطلابه، إلا أنها رغم مرور أكثر من 70 عاما على ذلك، لم تحرز التقدم المنشود، ولم تنضج التجربة بالشكل الكافي، كونها انتقلت من مادة فكرية لإطلاق عنان الخيال والفكر الخلاق لدى الطلاب، إلى مادة تعتمد على التلقين والحفظ وتحقيق نتائج جيدة في الإجابات التي يعدها الأستاذ "صحيحة" من منظوره الخاص.
وفي دول أوروبية، كانت الفلسفة خير معين لتنوير العقل وتحريره من فكرة الحروب الدينية، التي مزقت العالم، وعانته المنطقة العربية، حيث تستند المحاضرات الفلسفية في المؤسسات التعليمية على استحضار النظريات الفلسفية والأفكار عبر التاريخ.
أما الولايات الأسترالية، فأدرجت الفلسفة في المناهج الدراسية في الثانوية قبل سنوات، وتكرس المدارس وقتا ليس طويلا لتعليم التفكير النقدي والإبداعي، والاستفسارات الفلسفية.
أطفال الابتدائية يناقشون
يكشف الكاتب ميشيل سوي، في مقال له في صحيفة "الجارديان" البريطانية، عن تجربته في تعليم الفلسفة للأطفال في المرحلة الابتدائية، وهي تجربة تستحق الذكر، إذ بدأ يقدم ورشات فلسفية للأطفال، ووجد لاحقا أن الأطفال أصبحوا أكثر مهارة في النقاش واللعب الأفكار، وأكثر قدرة على بناء الحجج، ودحض الحجة بالحجة، وناقشوا موضوعات عامة مثل الفن، والأخلاق، والتواصل بين البشر والمخلوقات، والعدالة والمساواة، مستدلا بسؤال الكاتب الفرنسي ميشيل دو مونتين قبل أكثر من 400 سنة، "بما أن الفلسفة هي الفن الذي يعلمنا كيف نعيش، والأطفال بحاجة إلى تعلمها بقدر حاجتنا نحن في أي عمر، لماذا لا نعلمهم إياها"؟
التجربة رغم ثرائها، تكشف عن تحديات تواجه الدول التي تتجه لإدراج الفلسفة في المناهج التعليمية، إذ يتطلب ذلك الإلمام بتفاصيل التجارب الدولية في مجال تعليم الفلسفة، خصوصا الفئات السنية الصغيرة، مثل طلاب المرحلة الابتدائية، ومراعاة الخصائص النفسية والعقلية لطلاب كل مرحلة.
كما أن صياغة منهج لمادة الفلسفة يتطلب الغوص في هذا البحر الواسع، والبحث عن موضوعات معاصرة تؤثر في الطلاب وحياتهم العملية، أكثر من مجرد نقاش حول نظريات نشأة الكون والإنسان، في وقتٍ لا يعد خيار ترجمة المناهج العالمية خياراً موفقاً، لاختلاف الثقافات والأفكار وحداثة التجربة.
ومن أكثر التحديات إلحاحا عدم وجود الطاقم التعليمي الكافي المؤهل، مما يؤخر تطبيق قرار إدراج مادة الفلسفة في الدول التي لم تخض التجربة لأعوام على الأقل، من أجل تأهيل المعلمين والمناهج وبلورة الفكرة.
عودة بعد غياب
العام الماضي قررت الجامعة الأردنية إلزام جميع طلابها بدراسة الفلسفة، بعد غياب عن المناهج الدراسية استمر نحو 40 عاما، تقديرا للدور الذي تلعبه الفلسفة في الحضارة العالمية.
رئيس الجامعة الأردنية كشف أن للفلسفة دورا مهما في فهم التحديات المعاصرة، في حين لم تكن في يوم منفصلة عن الشأن العام، متسائلاً "كيف لا يتم تدريس الفلسفة في مدارسنا بعد، وهي التي لها القدرة على تحسين فهم العالم"؟
في حين شهد عام 2004 قرارا تاريخيا في المملكة المغربية، بتعميم الفلسفة في الثانويات، وهو قرار واجه تحديات في بداية تطبيقه في السنوات الأولى، إلا أن إيجابياته كانت كبيرة.
اليوم العالمي للفلسفة
تؤكد منظمة اليونيسكو القيمة الدائمة للفلسفة في تطور الفكر البشري، حيث تهدف إلى تعزيز الحجج والحجج المضادة، وإقامة الحوار مهما كانت الظروف.
اليونيسكو ارتبطت خلال سنوات عملها ارتباطا وثيقا بالفلسفة، ليس الفلسفة التأملية أو المعيارية، بل الفلسفة التي تمكن من إعطاء معنى للحياة والعمل في السياق الدولي، بحسب موقع المنظمة.
ويحتفل باليوم العالمي للفلسفة في يوم الخميس الثالث من شهر نوفمبر، حيث تم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر من عام 2002م، فيما تم الاحتفال به هذا العام في 15 نوفمبر الماضي.