رهان المستقبل .. انتصار السوق على الديمقراطية
إن كتابة التاريخ لا تحدث صدفة، فكيف بالأمر حين يتعلق بكتابة "تاريخ المستقبل"، كما هو الحال مع محاولة الاقتصادي الفرنسي جاك أتالي في كتابه "تاريخ موجز للمستقبل" une brève histoire de l’avenir، الذي ينطلق من فكرة أساسية مفادها أن المستقبل ليس سوى انعكاس لفهم الماضي. يقودنا هذا إلى سؤال عن كيف نكتب التاريخ؟ ومن ثم، كيف نتوقع المستقبل؟ بصيغة أخرى نقول: هل تقديم رواية محددة أو نسخة معينة للتاريخ تعني تقديم توقع جاهز للمستقبل؟
يدرك هذا المختص الاقتصادي صعوبة ما يقدم عليه، فالحديث عن المستقبل صار مهمة صعبة في الخيال "الأدب والسينما..."، فكيف حين يتعلق الأمر بالواقع من خلال محاولة التأريخ له استنادا إلى معطيات وأرقام، حيث يتحول إلى مغامرة. فالذي لم يأت بعد لا يمكن مبدئيا توقعه، لأن "عديدا من المعايير قد يؤثر في مساره، وعديد من المصادفات يمكنه تحويل واقعة محلية إلى واقعة عالمية سعيدة أو سيئة، وسيكون لعديد من الفاعلين رأي في الجغرافيا السياسية والثقافة والأيديولوجيا والاقتصاد لدرجة تجعل من المستحيل الإجابة عن أي من الأسئلة عن المستقبل، حتى القريب جدا".
لكنه على الرغم من ذلك يستدرك بالتأكيد أن "قصة المستقبل" التي يقدمها لنا، جاءت استنادا إلى سيناريو محكم، ينبني على قراءة دقيقة للماضي بغرض الخروج بأحكام عامة تصلح لتشكيل أساس لأحداث المستقبل. وهو ما عبر عنه بقوله "إذا ما أردنا فهم المفاجآت غير العادية، التي قد يخبئها المستقبل يتوجب علينا معرفة أساس ما كان منها في الماضي، ويساعد خاصة على الوعي بالإمكانيات الرائعة للتاريخ".
يرى الكاتب أن فهم تاريخ الإنسانية ليس سوى تسلسل للأنظمة السياسية الكبرى التي حكمت هذا التاريخ، بسلطاتها الثلاث منذ بدء الخلق: السلطة الدينية "النظام الشعائري" والسلطة العسكرية "النظام الإمبريالي" والسلطة التجارية "النظام الاقتصادي"، وبالتناوب تحكمت كل واحدة من السلطات في الثروات.
إلا أن النظام التجاري يبقى عند أتالي هو كلمة السر في صعود وانهيار الإمبراطوريات والممالك، وهو مرتبط أساسا بقيم الفردية، وانتصار مفاهيم الحرية الإنسانية. ما سيرفع من نسب تمجيد الفرد والجسم والاستقلال، والفردية التي ستجعل من الأنا والذات قيما مطلقة. وستصبح الإثارة الجنسية حاجة مطلوبة بوضوح، كما سيسمح بأكثر أشكال الجنس اختلافا، وسيوفر انتشار الترحال والمجتمعات الافتراضية فرصا جديدة للتلاقي. انفتاح افتراضي تقابله شروط حياة مدينة أكثر انعزالا، في شقق أكثر ضيقا مع شركاء مؤقتين عاطفيا، يتملكهم الخوف من الارتباط والهرب أمام العاطفة القوية، وستتملكهم اللامبالاة الظاهرية.
تدريجيا، سيتحول النظام التجاري إلى تجمع لديمقراطيات السوق؛ أي ستتعادل الديمقراطية والسوق. وسيصبح العالم متعدد المراكز، مع قوة مهمة أو اثنتين في كل قارة. وعليه ستصير هناك تسع أمم كبرى، هي: أمريكا والبرازيل والمكسيك والصين والهند ومصر وروسيا والاتحاد الأوروبي ونيجريا.
هذه الأمم التسع، ستصبح سيدة النظام متعدد المراكز من خلال إقامة حكومة غير رسمية للعالم. لكن هذا النظام التعددي لن يستمر طويلا، فمن المتوقع أن يؤدي إلى صراع عنيف، ينتهي بانتصار السوق على الديمقراطية، ما يهدد دول المركز بفقدان سيادتها.
يستعرض الكاتب جملة من التوصيفات لهذه الموجة، التي ستبلغ ذروتها منتصف القرن الحالي، نذكر من بينها: اختراع أجهزة جوالة جديدة تدمج في جسم الإنسان، يرجح أن تتحول إلى وسيلة للتحكم والمراقبة. إضافة إلى وضع أجهزة التقاط وتصوير مصغرة في الأماكن العامة والخاصة، تقوم بمراقبة الذهاب والإياب، ومراقبة المسافرين والعاملين والمستهلكين... باختصار سنكون في عالم "سيعلم الكل كل شيء عن الكل، وستختفي الأسرار".
على الواجهة السياسية، من المتوقع أن تتفكك الدول، لا بل سيشهد العالم عودة الحكم الديكتاتوري من جديد في عدة مناطق. وتبلغ الرأسمالية منتهاها، وسيصبح الاستهلاك الهدف الأعظم للبشرية، وستكون صناعتا الترفيه والتأمين المسيطرتين على إدارة الوقت التجاري. وتصبح السياسة عرضا عفا عليه الزمان، مع استمرار الفقر وازدياد البؤس في النفوس. إنها حقبة "الإمبراطورية الفائقة التي ستكون عالما من عدم التوازن الشديد والتناقضات الكبيرة.
سيصبح الإنسان المرتحل في المجتمعات الأولى مثل المواطن في ديمقراطيات السوق، لا يسري عليه أي عقد اجتماعي، وستحدث هجرات كثيفة من القرى إلى المدن؛ أي الانتقال من البؤس الريفي إلى البؤس الحضري. ولن تستطيع أي سلطة سياسية حتى ولو كانت ديكتاتورية، التحكم في هذه التحركات أو حتى إبطاءها.
ديمغرافيا، وفقا لتقديرات المؤلف، سيصل تعداد سكان كوكب الأرض، ما لم تحدث كارثة هائلة ما، إلى أزيد من 9.5 مليار نسمة. كما سترتفع توقعات الأعمار بالنسبة إلى الأفراد في البلدان الغنية، حيث يتوقع أن تصل إلى ما يقرب من 100 عام للفرد. فيما ستركد معدلات الولادة، في ذات البلدان إلى ما يقارب حدها الأدنى، ما يعني في المحصلة شيخوخة الإنسانية.
أما فيما يتعلق بالطاقة إحدى أسباب التنافس والصراع اليوم، فالأرقام مقلقة جدا، إذ يفيد الإيقاع الحالي لنمو الاستهلاك، ألا يتعدى احتياطي استهلاك الفحم 230 سنة، والغاز 70 سنة، و50 سنة للنفط، ما قد يؤدي إلى قحط وارتفاع مهم في الأسعار.
ما أكثر التوقعات التي يبسطها جاك أتالي في كتابه الذي مضى أزيد من عقد على إصدار؛ سنة 2006، التي يبدو أننا نعيش بعضا مما تضمنه من توقعات. فيما تتجه التطورات المتلاحقة بثبات نحو تحويل أخرى إلى حقيقية قريبا. فيما يبقى صنف ثالث بعيدا عن الواقع؛ على الأقل في المدى القريب.
ما يجعل المحاولة التوقعية لجاك أتالي "دجال النخبة الفرنسية" بتعبير الصحافي الفرنسي ديدييه ريكنر، أقرب ما تكون إلى "مزيج من العناصر الجميلة، يربطها نثر بلا معنى. لا أحد يفهم شيئا، لكن كل قارئ يوهم البقية أنه وجد فيه أشياء مهمة".