«السهولة المفرطة» .. تهديد متواصل لخبرات الإنسان
إن إنجاز المهام الصعبة والشاقة هو الذي يساعدنا لنحث ذواتنا الخاصة والمتفردة، ولنكون من "نحن"، لكن تطورات الحياة المعاصرة فرضت تدريجيا قاعدة مفادها أن "السهل أحسن، الأسهل هو الأفضل"، لدرجة أن إيفان ويليام يعترف قائلا: "إن السهولة تقرر كل شيء".
قدمت السهولة نفسها كأداة للتحرر، فهي المحرر الأعظم للإنسانية من الجهد البدني، وأضمن سبيل لإزالة المشقة وتوفير الوقت والفراغ. فتناسلت النبوءات لرسم لوحة وردية بشأن حياة المستقبل التي ستكون سهلة تماما؛ فالطعام مثلا سيجهز بضغطة زر، والممرات ستمشي عوضا عنا.... إلخ.
نجد نظير هذه المحاسن والأفضال، جانبا مظلما للسهولة؛ يبقى ضمن اللا مفكر فيه، يهدد بإزالة التحديات التي تعطي معنى للحياة. أكثر من ذلك، تنحو السهولة منحى تعطيل ملكة الخيارات لدينا. فبمجرد ما تستخدم هاتفا ذكيا، تصبح العودة إلى الهاتف العادي أمرا غير عقلاني.
يرفض معتنقو عقيدة السهولة الإقرار بأن الصعوبات أو العراقيل عنصر أساسي في تكوين الخبرة الإنسانية. وذلك عائد بكل بساطة إلى اهتمام مذهب السهولة بالغايات والنهايات، بدل الأدوات والوسائل. فبلوغ القمة يبقى الغاية لدى أنصار السهولة، ولا يهم أتم ذلك عن طريق تسلق الجبل أم باستعمال الناقلة الكهربائية.
تقوم أطروحة السهولة على اعتبار العمل البدني كابوسا يتهدد حياة الإنسان، لكن هل الأمر فعلا كذلك؟ هل لدى الإنسانية حقا رغبة في التحرر من العمل البدني كليا؟ ألا يكون هذا العمل الشاق؛ في بعض المحطات، فرصة نعبر من خلالها على إنسانيتنا؟
إذا كان التأكيد على أنه من الخطأ تبني المشقة كمبدأ في الحياة، ففي المقابل لا ينبغي الاستسلام للسهولة، وتركها تحدد كل شيء في حياتنا. لأن ذلك يجعلنا من أصحاب النهايات، ويحول تراكم خبرات حياتنا إلى مجرد تعليمات تنفذها الآلات بدلا عنا.
بدايات معركة السهولة كانت في القرن التاسع عشر من أجل السيطرة على الصناعة "الكفاءة الصناعية، تعزيز المنافسة، حرية الاختيار..."، لكن سرعان ما انتقلت إلى باقي مناحي الحياة بداية القرن العشرين، مع فورة الاختراعات المنزلية الموفرة للجهد، وهذا أمر جد متوقع، فالمبدأ العام في عالم السهولة يبقى هو "السهولة تولد مزيدا من السهولة" حتى بلغنا اختراع الأطعمة السهلة "المعلبة والسريعة".
تبقى التطورات التقنية التي عشناها في العقود الأخيرة صورة فاقعة لمستوى السهولة الذي وصلت إليه الإنسانية، حيث انتقلت السهولة من الاهتمام بتوفير الجهد البدني إلى تقليل الوسائل العقلية والمجهود الفكري المطلوب للاختيار بين البدائل المعبرة عن ذواتنا. ولنا خير مثال فيما تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي، كالصفحة الشخصية في "فيسبوك" أو "تويتر" أو حساب "إنستجرام"... إذ أضحت المثالية خيارا شخصيا من غير جهد وبنقرة زر واحد.
إن موجات السهولة هذه تدفع بنا في المحصلة إلى عالم من التنميط، فمواقع التواصل الاجتماعي وما تعرضه من خدمات لجميع الزبائن، يجعل الجميع في النهاية متشابهين، فالفوارق تبقى في الحدود الدنيا، لأن الكل في النهاية يخضع للقواعد والقيود نفسها.
غير بعيد عن عالم التقنية، تغزونا ملايين التطبيقات الذكية؛ منها تطبيق المفكرة الإلكترونية، وآخر لضبط وتحديد الاتجاه GPS، وثالث يذكرك بأوقات الصلاة من خلال بث صوت الأذان... وآخرها تطبيق حديث باسم "الطفل الثرثار" Chatterbaby غرضه تنبيه الأم لبكاء طفلها، كل ذلك بغرض تسهيل حياتنا وجعلها أمتع، كما يردد أصحاب السهولة.
عمليا، قد لا تكون لدى أي فرد منا أية مؤاخذات على هذه التطبيقات، لكن آثارها تتراخى لتغير من قيمنا الاجتماعية بشكل عميق وهادئ. عندما تمكنك السهولة من تجنب الصفوف لشراء تذكرة لمشاهدة فيلم سينمائي أو مباراة رياضية باستعمال حاسوبك أو هاتفك النقال، فإن الانتظار في الصف للتصويت في الانتخابات مستقبلا سيصبح أمرا مزعجا لك.
إن ما تعرضه عقيدة السهولة من مزايا أمامنا اليوم لا تساعد إطلاقا على تحسين إمكانات الجسم البشري، بل تعمل على تعطيله والإنابة عنه. وعليه، لا ينبغي التعاطي مع موجات السهولة والتبسيط المتزايدة على أنه نوع من الرفاهية وتسهيل الحياة؛ بل على العكس، إنه إلغاء الإنسان الحي المركب، وتعويضه بالإنسان الآلي الجاف والجامد. وهو ما ستكون له تداعيات على الحياة وقيم الأجيال المقبلة.
مما لا شك فيه أن أي تقدم لوسائل السهولة في حياتنا المعاصرة يكون على حساب هويتنا وإحساسنا وقدرتنا على التحكم في الأشياء، لدرجة تدفعنا إلى التساؤل عن ماذا سيتبقى من الخبرات الإنسانية عند إزالة كل العقبات والموانع؟ إن المقبل موجة كاملة من السهولة تنذر بإقبار عديد من القدرات البشرية التي ستضمر وتتوارى نتيجة عدم الاستعمال، جراء قيام البدائل التكنولوجية بأدوارها.
نحتاج اليوم إلى التعامل مع عقيدة السهولة بذكاء، متى أردنا الحفاظ على استمرارية الخبرات الإنسانية المتوارثة عبر التاريخ. حتى لا تنقلب حياتنا إلى صراع جوهره طغيان الأعمال الروتينية الصغيرة والقرارات التافهة. وقد سبق لرجل القانون تيم وو tim wu؛ الأكاديمي في جامعة كولومبيا، أن حذر من ذلك بقوله: "من العواقب غير المرغوبة للعيش في عالم كل شيء فيه "سهل" هو أن تصبح المهارة الوحيدة المهمة هي القدرة على إنجاز مهام متعددة. في أقصى الحالات، نحن لا نفعل شيئا: فقط نرتب ما ينبغي عمله، وذلك أساس واه للحياة".