ماذا وراء الاستقالات الجماعية في أفغانستان؟
أخيرا، حدث في أفغانستان ما أجمع على وصفه المراقبون بالزلزال في هذا البلد المضطرب أمنيا وسياسيا منذ عقود. لم يكن المقصود بالزلزال نجاح حركة طالبان أو تنظيم داعش في الاستيلاء على مزيد من الأراضي أو نجاحهم في قتل مزيد من عناصر الجيش والشرطة والمدنيين العزل، فذلك بات من الأمور اليومية التي يصحو أو ينام على أخباره الأفغان.
الزلزال قصد به قيام ثلة من أبرز المسؤولين الأمنيين والعسكريين بتقديم استقالات جماعية إلى رأس الدولة، الرئيس أشرف غني. وقد شملت الاستقالات كلا من طارق شاه بهرامي وزير الدفاع، وويس برمك وزير الداخلية، ومعصوم ستانكزاي مدير دائرة الأمن القومي، علما أن استقالة هؤلاء جاءت مباشرة بعد قرار حنيف عتمار مستشار الأمن القومي "49 عاما" ترك منصبه.
وفي الوقت الذي رفض فيه الرئيس غني استقالة القادة الأمنيين الثلاثة الأوائل، متحججا أن الأوضاع الأمنية المتوترة في البلاد في حاجة إلى خدماتهم في هذا التوقيت العصيب، فإنه قبل استقالة مستشاره للأمن القومي الذي يعد الرجل الأقوى في البلاد من بعده منذ أن تولى "غني" سدة الرئاسة وشكل حكومة الوحدة الوطنية في عام 2014.
قيل في قبول الرئيس استقالة مستشاره للأمن القومي وساعده الأيمن أقاويل متضاربة كثيرة. منها أن الرجلين دخلا في الآونة الأخيرة في خلافات مريرة حول طريقة إدارة البلاد وحمايتها، وأن حنيف عتمار بدا مستاء من طريقة معالجة ملفات الوحدة الوطنية، والإجماع الوطني، والسلام والأمن الوطنيين، والإدارة الحكومية، والحكم الرشيد، والشؤون الجهوية، وغيرها. ومنها أن استقالة عتمار جاءت بناء على طلب الرئيس نفسه بعد أن فشل الأول في وضع خطط للتصدي للميليشيات المعادية لحكومة كابول التي استولت على عاصمة إدارية وقصفت مناطق قريبة من القصر الرئاسي قبيل عيد الأضحى. ومنها أن أشرف غني كان مستاء من النفوذ المتعاظم لمستشاره في أجهزة البلاد، وقيامه بتعيين واستبدال رؤوس الأجهزة الأمنية دون الرجوع إليه. ومنها أن استقالة الرجل كانت مسألة صعبة على رئيسه لما كان بينهما من تعاون وتكاتف على مدى السنوات الأربع الماضية، لكنه اضطر إلى الموافقة في نهاية المطاف خدمة للمصلحة العامة.
غير أن آخرين قالوا كلاما مخالفا مفاده أن أشرف غني تخلص من مستشاره دون تردد بناء على معلومات تفيد بأنه يستعد لمنافسته في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأنه لهذا الغرض عقد اجتماعا مع رموز الحزب الإسلامي بزعامة لورد الحرب قلب الدين حكمتيار طالبهم فيه بدعمه كي يصبح الرئيس المقبل لأفغانستان، علما بأن الحزب الإسلامي، وهو من أحزاب المعارضة الرئيسة، أكد خبر الاجتماع، لكن دون أن يؤكد عزمه على تأييد الرجل، بل أشار إلى أن حظوظه في الفوز قليلة بسبب خلفيته الشيوعية القديمة. فالمعروف لدى الأفغان أن "عتمار" عمل مع الحكومة الأفغانية الماركسية التي كان الاتحاد السوفييتي السابق يدعهما حتى سقوطها في أواخر الثمانينيات، والمعروف أيضا أن الرجل بدأ حياته المهنية موظفا في جهاز المخابرات الأفغاني المعروف باسم "خدمات اتصالاتي دولتي" ذي الصلة بجهاز المخابرات السوفييتي KGB الذي كان يتجسس ويرصد حركة المجاهدين الأفغان طوال عقد الثمانينيات. وأثناء ولاية الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي شغل منصب وزير الداخلية، لكنه أقيل في عام 2010 على خلفية هجوم كبير لحركة طالبان على المنشآت الأمنية.
ولعل ما أثار حفيظة عديد من القوى الأفغانية العاملة على الساحة، سواء من تلك المؤيدة لحكومة كابول أو المعارضة لها، هو استبدال "عتمار" في منصب مستشار الأمن القومي بحمدالله محب "39 عاما" سفير أفغانستان لدى الولايات المتحدة، وذلك من منطلق أن الأخير لا يمتلك الخبرات والكفاءات اللازمة لمثل هذا المنصب الرفيع، خصوصا في المرحلة المضطربة الراهنة.
صحيح أن "محب" يحمل درجتي الماجستير والدكتوراه من المملكة المتحدة في تخصص هندسة الكمبيوتر، وصحيح أنه اكتسب خبرة سياسية من عمله في حملتي الرئيس أشرف غني الرئاسيتين في عام 2009 وعام 2014 ثم أضاف إليها خبرة دبلوماسية وعلاقات مع عديد من المنظمات والشخصيات الدولية المرموقة منذ تعيينه سفيرا لدى الولايات المتحدة عام 2015، إلا أن الصحيح أيضا خلو سيرته من أي شيء يفيد بإلمامه بالاستراتيجيات السياسية والعسكرية والأوضاع الأمنية الأفغانية، كونه لم يحارب يوما إلى جانب أي فصيل مقاتل، وبالتالي فهو لا يعرف بدقة خرائط الحروب القبلية والأيديولوجية والجهوية التي تشكو منها بلاده منذ تسلم المجاهدين للسلطة وما تلاه من انشقاقات ومماحكات ومعارك عبثية.
وردا على هذه الأقاويل، اعترف "محب" بحساسية منصبه الجديد في هذا الظرف الأفغاني الدقيق، وعدم إلمامه بكل متطلبات المنصب، لكنه أكد أنه سيسعى إلى معرفة كل شيء من خلال طلب المشورة ليس من زملائه في القيادات الأمنية والعسكرية فحسب، إنما من المواطنين المتضررين أيضا. أما أولئك الداعمون لتوليه منصب مستشار الأمن القومي، فقد أعربوا عن ارتياحهم لتعيينه قائلين إن حقيقة عدم تلطخ يديه بدماء الأفغان يجعله في وضع أفضل للاتصال بجميع الفصائل الأفغانية المتقاتلة، وبالتالي تحقيق التهدئة المفضية إلى السلام، مضيفين أن المرحلة الراهنة تحتاج إلى الدبلوماسية أكثر من الإجراءات الأمنية.