سياسة الاقتصاد العالمي والتوجه المطلوب

الطلب هو أكثر ما يحتاج إليه العالم. ومن الواضح أن القطاع الخاص ـ حتى مع الدعم السخي من جانب السلطات النقدية ـ لن يوفر الطلب. ولكن السياسة المالية قادرة على توفير الطلب. والفرص وفيرة للاختيار بين الاستثمارات العامة التي قد تحقق عوائد عالية ـ أعلى كثيرا من تكاليف رأس المال الحقيقية ـ وهذا من شأنه أن يعزز الميزانيات العمومية في البلدان التي تنفذ هذه الاستثمارات.
نص :
ظل اقتصاد العالم عالقا في الروتين نفسه الذي لم يتخل عنه منذ خروجه من الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وعلى الرغم من العمل الحكومي القوي ظاهريا في أوروبا والولايات المتحدة، فقد عانى كل من الكيانين الاقتصاديين ركودا عميقا وطويل الأجل. ومن الواضح أن الفجوة هائلة بين وضعهما الآن وما كانا ليتمكنا من تحقيقه في الأرجح لو لم تندلع الأزمة.
وكانت البلدان النامية أفضل حالا، ولكن حتى هناك كانت الأنباء قاتمة. والواقع أن أنجح هذه الاقتصادات، التي اعتمد نموها على الصادرات، استمرت في التوسع في أعقاب الأزمة المالية، حتى على الرغم من تعثر أسواق صادراتها. ولكن أداء هذه البلدان أيضا بدأ يتراجع بشكل ملحوظ أخيرا.
في عام 1992، اعتمدت حملة بِيل كلينتون الناجحة في انتخابات الرئاسة الأمريكية على شعار بسيط، "إنه الاقتصاد، يا غبي". ومن منظور اليوم، لا تبدو الأمور إذن سيئة للغاية؛ ذلك أن دخل الأسرة الأمريكية المتوسطة الآن أصبح أقل مما كان عليه في ذلك الحين. ولكن لا ينبغي لنا أن نستمد الإلهام من جهود كلينتون. فالوعكة التي تبتلي الاقتصاد العالمي اليوم ربما تنعكس بشكل أفضل في شعارين بسيطين: "إنها السياسة، يا غبي"، و"الطلب، الطلب، والطلب".
إن شبه الركود العالمي الذي شهده عام 2014 كان من صنع الإنسان. فهو نتيجة للسياسة والسياسات في عديد من الاقتصادات الكبرى ـ السياسة والسياسات التي خنقت الطلب. وفي غياب الطلب، تفشل الاستثمارات وفرص العمل في التحقق. الأمر بهذه البساطة.
ولم يكن هذا الأمر أشد وضوحا مما هو عليه في منطقة اليورو، التي تبنت رسميا سياسة التقشف ـ خفض الإنفاق الحكومي الذي أدى إلى تفاقم حالة الضعف في الإنفاق الخاص. وتتحمل بنية منطقة اليورو جزئيا المسؤولية عن إعاقة التكيف مع الصدمات التي ولدتها الأزمة؛ ففي غياب الاتحاد المصرفي، لم يكن من المستغرب أن يفر المال من البلدان الأشد تضررا، الأمر الذي أضعف أنظمتها المالية وقيد الإقراض والاستثمار هناك. ففي اليابان، أطلق أحد "أسهم" برنامج رئيس الوزراء شينزو آبي لإنعاش الاقتصاد في الاتجاه الخطأ. وكان هبوط الناتج المحلي الإجمالي في أعقاب الزيادة في ضريبة الاستهلاك بمنزلة دليل آخر يدعم اقتصاد جون ماينارد كينز ـ وكأن الأدلة لم تكن كافية بالفعل.
الواقع أن الولايات المتحدة فرضت أصغر جرعة من التقشف، وكانت صاحبة الأداء الاقتصادي الأفضل. ولكن حتى في الولايات المتحدة، تراجع عدد موظفي القطاع العام بنحو 650 ألف موظف منذ ما قبل الأزمة؛ وعادة، كنا نتوقع إضافة نحو مليوني وظيفة. ونتيجة لهذا فإن الولايات المتحدة أيضا تعاني، حيث كان النمو هزيلا إلى الحد الذي ظلت معه الأجور راكدة في الأساس.
ويعكس قسم كبير من تباطؤ النمو في البلدان الناشئة والنامية التباطؤ في الصين. فالصين الآن هي الدولة صاحبة أضخم اقتصاد في العالم "وفقا لتعادل القوة الشرائية"، وكانت لفترة طويلة المساهم الرئيس في النمو العالمي. ولكن النجاح المذهل الذي حققته الصين كان سببا في توليد مشكلات إضافية، التي ينبغي معالجتها عاجلا وليس آجلا.
إن تحول الاقتصاد الصيني من الكم إلى الكيف موضع ترحيب ـ ويكاد يكون ضروريا. وعلى الرغم من أن محاربة الرئيس شي جين بينج للفساد قد تؤدي إلى مزيد من تباطؤ النمو الاقتصادي، مع سيطرة الشلل على التعاقدات العامة، فليس هناك من الأسباب ما قد يدفع شي جين بينج إلى وقف حملته، بل على العكس من ذلك، لا بد من التعامل مع قوى أخرى تعمل على تقويض الثقة في حكومته ـ المشكلات البيئية الواسعة النطاق، ومستويات التفاوت المتزايدة الارتفاع، والاحتيال في القطاع الخاص ـ بالقدر نفسه من القوة والنشاط. باختصار، لا ينبغي للعالم أن ينتظر من الصين أن تدعم الطلب الكلي العالمي، بل إن الفجوة التي ينبغي سدها سوف تزداد عمقا.
وفي روسيا، من ناحية أخرى، نستطيع أن نتوقع أن تعمل العقوبات الغربية على إبطاء النمو، وسيترتب على هذا تأثيرات سلبية في أوروبا الضعيفة بالفعل. "وهي ليست حجة ضد العقوبات: فلا بد أن يرد العالم على غزو أوكرانيا، وقد أثبت كبار المسؤولين التنفيذيين الغربيين، بزعمهم غير ذلك سعيا إلى حماية استثماراتهم، أنهم يفتقرون إلى المبادئ إلى حد مثير للقلق". على مدى السنوات الست الماضية، كان الغرب يتصور أن السياسة النقدية قادرة على إصلاح الأحوال. فقد أدت الأزمة إلى عجز كبير في الميزانيات وارتفاع الديون، وكانت الحاجة إلى تقليص العجز والديون تعني في تصورهم ضرورة تنحية السياسة المالية جانبا.
والمشكلة هي أن أسعار الفائدة المنخفضة لن تحفز الشركات على الاستثمار إذا لم يكن هناك طلب على منتجاتها. ولن تدفع أسعار الفائدة المنخفضة الأفراد إلى الاقتراض بغرض الاستهلاك ما داموا يشعرون بالقلق إزاء مستقبلهم "وهو أمر منطقي". وما قد تتمكن السياسة النقدية من القيام به هو إيجاد فقاعات أسعار الأصول، بل قد تعمل على دعم أسعار السندات الحكومية في أوروبا، وبالتالي إحباط أزمة الديون السيادية. ولكن من الأهمية بمكان أن نوضح أن احتمالات نجاح السياسات النقدية المتساهلة في استعادة الازدهار العالمي هي صِفر بكل تأكيد.
ويعيدنا هذا إلى السياسة والسياسات. إن الطلب هو أكثر ما يحتاج إليه العالم. ومن الواضح أن القطاع الخاص ـ حتى مع الدعم السخي من جانب السلطات النقدية ـ لن يوفر الطلب. ولكن السياسة المالية قادرة على توفير الطلب. والفرص وفيرة للاختيار بين الاستثمارات العامة التي قد تحقق عوائد عالية ـ أعلى كثيرا من تكاليف رأس المال الحقيقية ـ وهذا من شأنه أن يعزز الميزانيات العمومية في البلدان التي تنفذ هذه الاستثمارات.
إن المشكلة الكبرى التي تواجه العالم اليوم ليست اقتصادية. ونحن نعلم كيف نهرب من وعكتنا الحالية. ولكن المشكلة تكمن في سياستنا الغبية.
خاص بـ " الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي