السعودية: قطار «الثقافة» ينطلق .. و«أبو الفنون» أولى المحطات

السعودية: قطار «الثقافة» ينطلق .. و«أبو الفنون» أولى المحطات

بعد أيام قليلة فقط من تعيينه أول وزير للثقافة، شهد الشارع نشاطا محموما للأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود للنهوض بالحركة الأدبية والثقافية في المملكة، إذ بدأ بزيارة تفقدية للهيئة العامة للثقافة، تبعها معايدته للأدباء والمثقفين والاستماع إلى همومهم، ثم زفه البشرى بعلاج الأديب الدكتور منصور الحازمي والفنان التشكيلي طه صبان على نفقة ولي العهد الخاصة، وما تخلل ذلك من أنشطة وحضور ثقافي ينبئ بالخير.
انطلاقة قطار "الثقافة" كانت من بوابة المسرح، "أبو الفنون"، حينما اتصل وزير الثقافة بالمسرحيين، مهنئا بالعيد وباحثا لشؤون المسرح، في وقت ينتظر الوزارة إرث وتركة عظيمة، وتحديات وملفات كبيرة تحتاج تدخل الوزارة، فيما أسهم مثقفون في وضع خريطة طريق لحل هذه العقبات واقتراح الحلول لها.

«أبو الفنون» أولا
يبدو أن وزارة الثقافة تتجه نحو تنمية مفهوم ثقافي عميق وأكثر تأثيرا. البداية كانت من المسرح، "أبو الفنون" وأحد أكثر الفنون غيابا عن الساحة الثقافية، فبحسب الكاتب المسرحي فهد الحوشاني، فإن الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان أجرى اتصالات بمسرحيين، مناقشا همومهم وشؤون المسرح، مؤكدا في تغريدة له على موقع "تويتر"، أن ذلك يبشر بعهد جديد سيعيشه الشأن المسرحي والثقافي، والشكر له على اللفتة والتواصل غير المستغرب منه.
وليس بخاف على أحد مشكلات المسرح السعودي، التي يعانيها بدءا من غياب العنصر النسائي في المسرحيات المحلية، وغياب الهوية الوطنية، وعدم وجود مسارح جماهيرية في المدن لاستيعاب الفن المسرحي، فضلا عن غياب التسويق الاحترافي لهذا الفن وغياب مماثل للمحتوى الطريف البعيد عن التهريج الساذج، إضافة إلى استقطاب المسرحيات الفنية الناجحة من الكويت ومصر وغيرها، دون أن يكون هناك أي مشاركة للفنان السعودي داخل هذه المسرحيات لاكتساب الخبرة المسرحية.
وفي هذا الإطار يقول الشاعر السعودي إبراهيم الماجد، إن المسرح السعودي كان بخير حينما كان يتباهى بالفنانين محمد العلي وبكر الشدي، لكن البقية ليس لديهم الثقافة والحضور المسرحي، مبينا أنه يرى الأمل في مسارح الجامعات، خصوصا مسرح جامعة الملك سعود، نواة الحركة المسرحية السعودية.
أما فيما يتعلق بعدم وجود معاهد مؤهلة لتخريج ممثلين وممثلات وكتاب ومخرجين، فقد دأبت "الاقتصادية" على الحديث عن هذا التحدي المسرحي خلال الأسابيع الماضية، وسلطت الضوء على ضرورة وجود معهد فني في المملكة لصناعة كوادر مسرحية، وقد وضعت مغردة سعودية النقاط على الحروف حينما أجرت استطلاعا على "تويتر" شارك فيه 2000 مغرد.
وجاء في الاستطلاع: هل تؤيد وجود معهد عال للفنون المسرحية كذاك الموجود في الكويت وسورية؟ معهد يشرف على التدريس فيه عمالقة الفن السعودي، مثل ناصر القصبيي، عبدالله السدحان، يوسف الجراح وآخرين، ليجيب نحو 64% من المستطلعين بالموافقة.

تشجيع الاستثمار الثقافي
المطلوب من وزارة الثقافة أبعد من المطالبات بطباعة كتاب، أو تنظيم أمسية شعرية، أو ندوة أو محاضرة لمناقشة صناعة الرواية وتحولات الكتاب الرقمي، بل المطلوب أن تتجاوز الوزارة الفعل الثقافي التقليدي، وأن تنطلق بفعل ثقافي يهتم بإبداعات الشباب، ويعمل من واقع التحولات التقنية، مستفيدا من منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
المؤشرات الحالية حتى اللحظة تنبئ بالخير، في ظل وجود وزير شاب شغوف بالفن والثقافة، معروف بنشاطه، ذو خلفية قانونية، فهو الحاصل على درجة البكالوريوس في القانون من جامعة الملك سعود، ومحافظ الهيئة الملكية في العلا، كما أنه عضو مجلس إدارة الهيئة العامة للثقافة، وعمل في القطاع الخاص لسنوات عدة، رأس خلالها مجلس إدارة المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، ومجلس إدارة مؤسسة مسك للفنون، مما يملأ المثقفين ثقة في قدرة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان على اختيار فريق الوزارة الكفء، البعيد عن الأدلجة والشللية والأيديولوجيات المشبوهة والأفكار المتطرفة، وثقتهم في اختياره لشخصيات بعيدة كل البعد عن صراع التيارات، قادرة على احتضان الأفكار، وقادرة أيضا على التأثير في الجماهير بأطيافها كافة، دون أن يكون الفعل الثقافي خاصا بالنخبة دون غيرهم.
لعل الطموحات والأمنيات كبيرة، لا تقف عند الدور التقليدي للوزارات، إنما تتجاوزه لتدعو إلى التفكير بطرق إبداعية، بالاستفادة من التجارب العالمية الناجحة، للوصول إلى مجتمع مثقف وثقافة تتجاوز الحدود، تؤثر في أبناء الوطن والآخر في أنحاء المعمورة.
في المقابل، لم يخف مثقفون سعوديون خوفهم أثناء سردهم لمطالبهم الثقافية خلال الأيام الماضية من عمر الوزارة أن تغلب النزعة الاستثمارية التي تنتظر المردود المالي السريع على مشاريع الثقافة، ودعوا في مقالاتهم وأحاديثهم الصحافية إلى تشجيع الاستثمار في المشاريع الثقافية، على أن تكون بأرباح معقولة غير منفرة، واستدلوا بما حدث في أمسية الشاعر كريم العراقي في الرياض، إذ تجاوزت فيها أسعار التذاكر حاجز الـ 900 ريـال، فأدى ذلك إلى العزوف عن الحضور.
وحتى يكتمل الغراس الثقافي، تتجه الأنظار إلى وزارة الثقافة لتؤسس صندوق تنمية ثقافي، على غرار الصندوق العقاري، ومثله الصناعي والزراعي، لتغيير وجه الثقافة وتحويل المجتمع إلى مجتمع معرفي، يسرع وتيرة إنجاز محاور "رؤية 2030" الثقافية.
صندوق التنمية الثقافية السعودي حلم يراود المثقفين منذ سنوات، سيكون - إن تحقق - بمنزلة مؤسسة ائتمانية حكومية متخصصة في تنمية المجال الثقافي، وتقديم قروض حسنة دون فوائد للمستثمرين في هذا المجال.

استراتيجية تمنع الازدواجية
حينما أقرت المملكة في عام 2016 "رؤية 2030"، احتوت على أهداف تتعلق بالثقافة، كنعصر أساس من مقومات جودة الحياة، وباعتبار أن جودة الحياة لا تكتمل دون وجود جانب الثقافة.
وحتى تتحقق أهداف الثقافة، لابد من وضع خطة استراتيجية لأهداف وزارة الثقافة خلال الـ12 عاما المقبلة، حتى تتبلور مشاريعها وتتحقق في عام 2030، وتنفذ وفق خطط علمية بعيدا عن الارتجالية، وذلك بعد إنشاء قاعدة بيانات ومعلومات وطنية، توثق المشاريع الثقافية، تقرأ الواقع الحالي للثقافة، للتعرف على نقاط الضعف، ومنع الازدواجية التي قد تحصل في أعمال الهيئات والمؤسسات الحكومية، مثل وزارة الثقافة والهيئة العامة للثقافة، والهيئة العامة للترفيه، والهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وكذلك الازدواجية وتحديد أدوار جمعيات الثقافة والفنون، والأندية الأدبية، والمراكز الثقافية وغيرها.
يأتي ذلك وسط مطالبات ثقافية بفتح الباب لإنشاء أندية ثقافية وأدبية للهواة، ومنح تراخيص للصالات والمعارض الفنية والمتاحف والمسارح، خصوصا أن بيئة المملكة حاضنة لآلاف المبدعين والفنانين، الذين يحتاجون إلى بيئة تحتضن أعمالهم، بعيدا عن الإجراءات البيروقراطية، وتعقيدات الأنظمة وتوزع مسؤولية التراخيص بين الجهات المختلفة.

شعلة تنويرية
في انتظار وزارة الثقافة إرث عظيم من المسؤوليات والمهام الملقاة على عاتقها، وأمنيات ظلت طويلا في أدراج وكالة الشؤون الثقافية، تنتظر من ينتصر لها، بعد أن بقيت طويلا مرتبطة بالإعلام إداريا وتنظيميا وماليا.
من الملفات والأمنيات العالقة، أمنيات الفنانين التشكيليين، الذين يأملون من وزارة الثقافة أن يكون فنهم في المكان الذي يليق به، فقد وصلت أعمالهم إلى منطقة متقدمة، ويتطلعون إلى فرصة المشاركة في المعارض المحلية والخارجية، والتسليط الإعلامي على أعمالهم، وتزيين المباني المدرسية والحكومية بها، مما يذكي الذائقة الفنية للجميع.
وبعيدا عن ملف الأندية الأدبية، أحد أكثر الملفات الثقافية تعقيدا، إذ لا تزال لوائح انتخاباتها وأنظمتها لم تحسم بعد، ينظر بعض المثقفين إلى المناطق النائية والواعدة بصفتها أكثر حاجة من المدن الرئيسة للمناشط والمراكز الثقافية، داعين إلى عدم اقتصار الفعاليات الثقافية على بضعة مدن رئيسة، مما يضع المواطنين في هذه المناطق خارج نطاق الاهتمام والوعي الثقافي والتنمية.
تعليميا، كتب مثقفون حول ضرورة إكساب المناهج التعليمية صبغة ثقافية، وغرس الأدب في نفوس النشء من خلال الأنشطة اللاصفية، وعدم الاكتفاء بتشجيع القراءة بصفتها الفعل الثقافي الوحيد، إنما اكتشاف مواهب الأطفال في الكتابة والتمثيل والرسم وإلقاء الشعر منذ الصغر، وتنمية هذه المواهب ورعايتها وتسليط الأضواء عليها، وتربية جيل مطلع على ثقافة وطنه قبل ثقافات العالم. أما فيما يتعلق بالإنتاج الأدبي وحركة التأليف، فدعا مثقفون إلى رفع سقف الحرية الفكرية، وعدم فرض قيود على أفكار المبدعين، بل مناقشتها ودفع الحجة بالحجة، خصوصا أن تقنية العصر الحديث قادرة على إيصال الفكرة إلى كل مكان، في حين أن الحجب أو المنع وسحب المؤلف من معارض الكتب والمكتبات يزيد شهية المتلقي في البحث عن كل ممنوع.
على نحو آخر، يعد تحفيز المبدعين والموهوبين من الشباب حجر الأساس في "رؤية 2030"، وعليه، فإن وزارة الثقافة مطالبة بدعم هذه المواهب في كل الحقول والميادين، وصقل مهاراتهم بالاستفادة من المثقفين المتمكنين والمعاهد والمؤسسات، مثل مؤسسة مسك، وفي المقابل، تكريم المبدعين وكبار المثقفين، ماليا ومعنويا، وإعطاؤهم المكانة المستحقة، وتذليل الصعوبات التي تواجههم حتى يواصلوا عطاءهم.

ثقافة المملكة في عيون العالم
تتفاوت نظرة شعوب العالم إلى المملكة وتراثها وثقافتها، ورغم ذلك التفاوت، تبقى الصورة الحقيقية المذهلة لثقافة وحضارة المملكة لا تصل بالشكل المأمول.
ومرد ذلك، بحسب كتاب ومثقفين، يعود إلى تبعية الملحقيات الثقافية السعودية في الخارج إلى وزارة التعليم، التي تركز على الجانب التعليمي أكثر من الجانب الثقافي الذي استمدت اسمها منه، لتترك العالم في عطش دائم أثناء بحثه للتعرف على الثقافة والحضارة السعودية، وإن كانت الأيام الثقافية السعودية قد لبت جانبا منه، فلا يزال في انتظار الملحقيات الثقافية جوانب مضيئة أخرى لتسليط الضوء عليها، إذا ما استفادت من خطط وزارة الثقافة، واتبعتها إداريا وتنظيميا.
الملحقيات الثقافية السعودية مدعوة إلى الاهتمام بالترجمة والتعريب، وفتح قنوات تلاقي بين الشعوب، ونشر الإبداعات الثقافية الوطنية في المحافل الدولية بأشكالها كافة، سواء عبر الكتاب الورقي أو الإلكتروني، أو الأوعية الإلكترونية الأخرى.
أما فيما يتعلق بتراث المملكة، ففي هذا الجانب يطول الحديث، إذ لا تزال استراتيجية الوزارة قيد الإعداد، ولم يتضح بعد ما إذا ستكون المواقع الأثرية والتراثية ضمن اختصاصاتها. في الوقت الذي تقوم فيه الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بدور بارز وجبار في حفظ المواقع التراثية والأثرية، ووضعت الأنظمة واللوائح التي تكفل لها الحماية، وإعداد برامج لتوثيقها والعناية والتعريف بها، واستعادة الآثار السعودية من الخارج.
ومن الاقتراحات التي تلقتها "الاقتصادية" من مثقفين أثناء إعدادها لهذا التقرير، هو إنشاء مهرجانات ثقافية عالمية على مستوى العالم العربي، ومهرجانات ثقافية عالمية، لا تقوم على إبراز الثقافة السعودية فقط، إنما إبراز الثقافة الإسلامية، والتراث الإنساني الذي تحتضنه المنطقة.
كما تضمنت الاقتراحات إنشاء حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تعرف بالثقافة السعودية، وتجيب عن كل التساؤلات وتدحض كل الإشاعات التي طالتها وطالت المملكة في المجالات كافة، إذ ينظر إلى تجربة حسابات "اليابان بالعربي" و"السويد بالعربي" و"النرويج بالعربي" على وسائل التواصل بعين الإعجاب والتقدير، حيث استطاعت أن تمحو أية صورة نمطية سلبية أو معلومات خاطئة تطول هذه البلدان، وتنشر معلومات في قالب شيق عن ثقافة وتراث وعادات كل بلد ومنجزاته الحضارية، بلغات متعددة، لتبرز مبادرات بالدعوة إلى إنشاء حسابات رسمية شبيهة تحت مظلة وزارة الثقافة، مثل "السعودية بالإنجليزي" أو "السعودية بالفرنسي"، وحسابات بلغات أخرى، مثل الفارسية والإسبانية والصينية والهندية.

الأكثر قراءة