رغم تزايد الأكاديميين .. «المثقف الحقيقي» مهدد بالانقراض

رغم تزايد الأكاديميين .. «المثقف الحقيقي» مهدد بالانقراض
رغم تزايد الأكاديميين .. «المثقف الحقيقي» مهدد بالانقراض
رغم تزايد الأكاديميين .. «المثقف الحقيقي» مهدد بالانقراض

"أين ذهب كل المثقفين؟".. هو عنوان كتاب أطلقه الكاتب البريطاني فرانك فوريدي عام 2004م، وكأنه يتناول واقع المثقفين هذه الأيام؛ إذ أصبح غياب المثقف عن قضايا مجتمعه حالة عامة؛ لا يختص بها المجتمع البريطاني فحسب؛ بل العالم كله، وخصوصاً المجتمعات العربية.
فالمثقفون يعيشون عزلة حقيقية، فهم لا يشتركون في النقاش في القضايا العامة، ولا يبدون آراءهم أو يتفاعلون في الحوار حول الأزمات التي تعصف بالواقع الثقافي خاصة، وحتى الملفات والموضوعات التي تشغل بال أبناء المجتمع، حتى أصبحت السمة العامة للمثقف بأنه "سلبي".

المثقف السلبي

مصطلح المثقف سلبي ليس حديثاً، فهو مصطلح ما يلبث أن يظهر بين الفينة والأخرى، ليصف الحالة التي يعيشها المثقفون، الذين يقتصر اهتمامهم على شؤونهم الخاصة، وغارقون في عالمهم، ويحتفظون عادة بآرائهم ونظرياتهم وعلومهم فيما يتعلق بالتطورات الاجتماعية والسياسية والثقافية، فلا يستفيد منها المجتمع، ولا يؤدون دورهم في خدمة قضاياه.
يأتي ذلك في الوقت الذي يطالب فيه المثقف بأن يكون إيجابياً، متفاعلاً مع قضايا وطنه، متضامناً ومدافعاً عنه، يشارك في الأنشطة العامة، ويطمح لتطوير المجتمع الذي يعيش فيه بكل ما أوتي من علم، ويحاول أن يحدث فرقاً في حياة الناس.
فقد عرف العالم المثقف بصفته مبدعاً، صاحب أفكارة نيرة، قادرا على أن يصنع التغيير بما يحمله من أفكار ورؤى، وله دور ريادي في تطوير المجتمعات، فكل المثقفين والفلاسفة عبر الأزمان تركوا خلفهم أفكاراً قلبت المجتمعات، وغيرت مسار التاريخ، وقيل قديماً إن "وجود المثقف هو حياة لأهله وامتداد لهم".

مشاركة وتأثير
خلال مسيرة المجتمعات ومشوارها عبر التاريخ، كان للمثقفين مشاركات وتأثير عميق في الشعوب، لعل أكثر الأزمات استدلالاً على دور المثقف هي أحداث مايو 1968م في فرنسا، وهي فترة عنيفة، شهدت خلالها فرنسا اضطرابات واسعة، وفي هذا العام شهدت البلاد أكبر إضراب عام في تاريخ فرنسا، وفيه أحدث المثقفون وطلاب الجامعات تغييراً وانتفاضة ثقافية، ووضعوا أسساً وقيماً اجتماعية إيجابية، بعد أن كان المجتمع في عمقه الثقافي يعاني الرياء والنفاق وهزالاً ثقافياً وفكرياً، ليحدث المثقفون، ومنهم الفيلسوف جون بول سارتر، زلزالاً ثقافياً في الشارع، وأسهم السلاح المعرفي والإبداعي في خدمة الجماهير وتغييرهم نحو الأفضل، ولا تزال آثار هذا التغيير الثقافي نراها في ملامح فرنسا حتى اليوم.
وفي فلسطين، استطاع الشاعر الراحل محمود درويش أن يكون مثالاً للمثقف الإيجابي، الذي لفت أنظار العالم لقضيته. وفي المقابل، كان ذلك من العوامل التي جعلت منه شاعراً كبيراً في حياته وبعد مماته.

أين مثقفو الجامعات؟
وعطفاً على بدء، فإن كتاب فوريدي "أين ذهب كل المثقفين؟" يتناول تحجيم دور المثقف، ويرى أن الجامعات بعد أن كانت بؤرة إبداعية وثقافية في الماضي، أصبحت مكاناً يضم الأذكياء رفيعي التعليم، وأكاديميين مهنيين، لكنهم بالتأكيد لا يعدون ضمن الطبقة المثقفة المؤثرة.
ودعا فوريدي في كتابه إلى تطوير الحياة الثقافية في الجامعات والمجتمع، وقال إن الناس يستحقون مناظرة فكرية على درجة عالية من الجودة في المؤسسات الثقافية، بوصفهم أشخاصا يحملون إمكانات كامنة كبيرة، وعلى قدر من الاحترام والتقدير.
فرانك فوريدي لم يحمّل المسؤولية كاملة للمثقف في تراجع مكانته وتصنيفه في المجتمع، بل أكد أن للعوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية وبنية المجتمعات دورا في ذلك، ففي عصر التنوير كان للمثقف سلطة ونفوذ هائلان، ومع مرور الوقت، أصبح دوره يتآكل، وقيمته تتراجع، وتأثيره انكمش، وصورته اهتزت، حتى أصبح موضع شك ومساءلة، وتصدرت المشهد وجوه بعيدة كل البعد عن الثقافة، وأصبح هؤلاء يقودون النقاش العام دون أي تاريخ معرفي وثقافي.
وتتفق تلك النظرية مع ما كتبه جوليان بندا في كتابه "خيانة المثقفين" الصادر عام 1972م، الذي عدّ المثقفين عصبة صغيرة من الفلاسفة الذين يتحلون بالحس الاستثنائي الأخلاقي ويشكلون ضمير البشرية، لكنهم تخلوا على استقامتهم الفكرية، كما تخلوا عن مسؤوليتهم في النقد، وانكبوا على مصالحهم الشخصية، في الوقت الذي يجب عليهم فيه أن يقفوا صفاً واحداً للتأثير في أكبر عدد من شرائح المجتمع.

عربياً

ليس بخافٍ على أحد غياب المثقف العربي - إلا ما ندر - عن الشأن العام، حيث أصبح حضوره باهتاً، أشبه بغيابه، ولا يحرك ساكناً حيال أي قضية، غارق في تشاؤمه، ولا يصدر منه إلا "الضجيج".
في حين يعتب البعض على المثقفين الذين تحركهم "المادة"، وحولوا آراءهم إلى تجارة تخدم أيديولوجيات محددة، لا تخدم المجتمع، وقد لا تتفق أحياناً مع رأي المثقف، لكنه يقوله ويؤكده رغم ذلك.
ومما يفاقم من المشكلة ويزيد من حدتها؛ هو الحاجة للمثقف في مواجهات التطرف والإرهاب وتيارات الظلام، ومحاربة العنصرية والفئوية والتحيز والتعصب والطائفية والمذهبية والكراهية والإقصاء، ولجم المشككين ونار الفتن التي تهدد نسيج الوطن، وتحاول أن تهدد تماسك أبنائه.
إن تراجع دور المثقف، واتسامه بصفات "المثقف السلبي" ينبئان بوجود "أزمة ثقافية"، خصوصاً أن المجتمعات العربية في حاجة ماسة لدور المثقف الواعي، الذي يعد قوة فاعلة قادرة على التأثير في ملايين الأفراد عبر أفكارهم، وبالتالي التأثير في سلوكيات المجتمع والنهوض به. أما اليوم؛ فقد أصبح المثقف الحقيقي كائنا مهددا بالانقراض، وذرائع المثقف السلبي وصمته لا يمكن قبولهما في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، التي أكسبته منبراً قوياً، واسع الانتشار وله قدرة على التأثير، ما يعزز من قدرته على الاحتواء والنقاش والتضامن والذود على فكرته.

الأكثر قراءة