الذكاء السعودي .. والذكاء الاصطناعي
من التحديات التي سيطرحها العصر الاصطناعي في سوق العمل .. التنافس الحاد بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني. وفي الأيام القليلة الماضية تداولت وسائل الإعلام أخباراً مفادها أن "الأتمتة" ستحل محل 800 مليون إنسان، أي أن سوق العمل سيرمي 800 مليون موظف خارج سوق العمل العالمية ويحيلهم إلى موظفين عاطلين عن العمل.
وانفجر هذا الخبر وسط الناس مثل القنبلة الموقوتة، فبدأ الهرج والمرج في الأسواق، وبدأ القلق على الوظيفة يساور ملايين الموظفين الذين يقيمون معاشهم وحياتهم على الوظيفة.
وأمام القلق الذي ساور الناس بادرت شركات التوظيف في الدول المتقدمة بتصميم برامج تدريبية متعددة لتمكين الإنسان من المهارات الجديدة التي بدأ الذكاء الاصطناعي يبرع فيها ويحقق تفوقاً مذهلاً على الإنسان، وهذه البرامج ستمكّن الإنسان الذكي من العودة إلى سوق العمل من خلال الوظائف الرقمية التي تتلاءم مع سوق العمل الجديدة.
حتى نوضح هذا التنافس بين الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي دعونا نقدم صورة تاريخية مرت بها سوق العمل العالمية تشبه إلى حد كبير الصورة التي ستكون عليها سوق العمل في المستقبل القريب.
في الخمسينيات الميلادية وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ العالم يدخل عصرا اصطناعيا جديدا تُوِّج بتكنولوجيا الكهرباء التي غزت الأسواق في كل أنحاء العالم، وبدأ الناس يغيّرون حياتهم ويستخدمون الطائرات والسيارات والغسالات والثلاجات والمطابخ الكهربائية وآلات الطباعة والمصانع العصرية والمستشفيات، وبدأوا يضيئون ويزينون شوارع مدنهم بالثريات الكهربائية، أي أن الكهرباء وأدواتها وكل المنتجات المذهلة التي تعمل بالكهرباء دخلت في كل تفاصيل حياتهم، وأصبحت أحد المقومات الأساسية في حياة الإنسان اليومية، ودونها لا تقوم الحياة ولا يمضي الزمن.
وبذلك أصبحت الكهرباء هي المحرك الأعظم للوظائف الجديدة في سوق العمل في كل مكان من العالم، بل أصبحت الكهرباء هي المحرك للاقتصاد في كل دول العالم ودونها لا يمكن أن تقوم للحياة قائمة.
إذن جاءت تكنولوجيا الكهرباء بتغييرات شاملة في كل أوجه حياة الإنسان وأصبحت هي المقوم الأهم لموارد الاقتصاد الدولي، وتبعاً لما غيّرته الكهرباء فقد تغيّر نمط الحياة، وتغيّرت الوظائف في الأسواق، وأصبح الإنسان الذي يستخدم يده وعضلاته لا وجود له؛ بل أصبح الإنسان يدير شؤونه من خلال أزرار تكفي للقيام بأعمال مبهرة.
الصورة الآن تبدو هكذا، فنحن أمام تكنولوجيا جديدة يقدمها العصر الاصطناعي للعالم، ومطلوب من الناس جميعا أن يتعلموا كيف يديرون ويستفيدون من هذه التكنولوجيا الجديدة التي بدأت تفرض سيطرتها وسطوتها في كل أسواق العالم. إنه العصر الاصطناعي الذي يراهن على مستوى من الذكاء يفوق الذكاء الإنساني؛ ما يعني ضرورة أن يكون الإنسان على مستوى التحدي، ويعمل بكل قواه من أجل أن يكون في مستوى المنافسة والندية مع هذا المنافس الشرس الذي جاء بتكنولوجيا لم يسبق للإنسان أن واجهها على مدى حياته الغابرة.
وهنا نستطيع القول إن الإنسان السعودي ــ مثله مثل أي إنسان يعيش فوق كوكب الأرض ــ بدأ يواجه تحدياً صارخاً من الروبوتات الذكية التي بدأت بالفعل تنافس الإنسان في كثير من الوظائف وتؤدي هذه الوظائف بمهارات أعلى وأفضل وأسرع، ولم تترك أمام الإنسان السعودي إلا أن يطوّر مهاراته بما يتناسب مع ما تتطلبه سوق العمل الرقمية.
وأتصور أن الإنسان السعودي له من الذكاء ما يجعله يفكر في الاتجاه السليم، والاتجاه السليم هو الوظيفة الرقمية التفاعلية التي تتطلبها سوق العمل الرقمية، وإلا فإن المصير هو العطالة؛ بل البطالة والفشل في المنافسة في الوظائف الفنية المتاحة.
ويصف العلماء الثورة الصناعية الرابعة، بأنها ستكون تسونامي التقدم التكنولوجي الذي سيغير كثيراً من تفاصيل الحياة البشرية فوق كوكب الأرض، وتتهدّد هذه الثورة الرقمية العلاقات الاجتماعية الحميمة بين البشر، وسترتبط العلاقات بين الناس على أجهزة الموبايلات، فضلاً عن كون الفضاءات الإلكترونية أصبحت سهلة الوصول بعد أن كانت بعيدة المنال.
إن الذكاء الاصطناعي موجود اليوم في كل مكان حولنا من السيارات ذاتية القيادة، والطائرات المسيّرة دون طيّار، ونلاحظ في رحلاتنا الطويلة أن قائد الطائرة يغادر مقعده ويدخل إلى كابينة الركاب موزعاً ابتساماته عليهم، بينما الطائرة تسبح في مجالها الجوي دون قائد يقودها. وتم إحراز تقدم مثير للإعجاب في حقل الذكاء الاصطناعي؛ حيث تم الوصول إلى البصمة الوراثية واكتشاف أدوية جديدة تقضي على كثير من الأمراض المستعصية التي عصفت بالجنس البشري طوال الدهور الماضية. وفي الوقت نفسه، فإن تكنولوجيا التصنيع الرقمية تتفاعل مع عالمنا البيولوجي بشكل مستمر، كذلك فإن الثورة الصناعية الرابعة توفر فرصاً واسعة للمجتمعات البشرية كي تحقق معدلات عالية من التنمية الاقتصادية والإنسانية بتكاليف إنتاجية أقل بكثير من تكاليف الثورات الصناعية السابقة. كذلك من الإيجابيات الأخرى للثورة الصناعية الرابعة توفير رعاية صحية أفضل للإنسان، أهمها أنها توفر في "الموبايل" عمليات تحليل الدم والبول وقياس الضغط، إلى غير ذلك من المعلومات التي يحتاج إليها الطبيب عن مريضه في الحالات الحرجة. وستحتل الحرب الإلكترونية محل الصدارة في العصر الاصطناعي؛ حيث إن الحروب ستُدار عن بُعد وبأقل خسارة ممكنة في البشر.
وفي آخر مقابلة أجريت مع يوفال نواه هايراري؛ المتخصص في علوم المستقبل قال أمام الحضور: إن البشرية ذاهبة على قدميها إلى عالم رهيب ومخيف عندما تندمج ثورة عالم تكنولوجيا المعلومات مع ثورة التكنولوجيا الحيوية وتصبح قادرة على اختراق جسم الإنسان وقراءة كل ما يدور بخلده وخواطره، أي لن تكون هناك أسرار يبطنها الإنسان. وواصل هايراري؛ كلامه بأن الاختراع الرئيس الذي يجعل الاندماج بين تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية ممكنا هو جهاز الاستشعار البيولوجي الذي يمكنه قراءة بصمات الأصابع على سبيل الافتراض.
وإضافة إلى ذلك فإن العصر الاصطناعي سيربط خدمات المدن الكبيرة ومرافقها العامة بالإنترنت وهو ما سيحقق مزيداً من الرقابة وتوفير الطاقة وتسهيل حركة النقل، بل أكثر من هذا فإن العلماء يؤكدون أنه بحلول عام 2025 ستظهر في العالم المدن الخالية من إشارات المرور، ومواقف السيارات الخالية من اللصوص. ولكن مع كل هذه الإيجابيات التي سينعم بها الإنسان من خلال ابتكارات العصر الاصطناعي، فإن أخطر السلبيات التي يمكن أن تواجهها المجتمعات الإنسانية هو انتشار البطالة على نطاق واسع، ويقدر الاقتصاديون أن "أتمتة" الصناعة من شأنها أن تقلص فرص العمل في الطبقتين الدنيا والوسطى إلى نحو 50 في المائة، بل يُخشى أن يؤدي العصر الاصطناعي إلى هيمنة الشركات الكبرى واضمحلال دور الشركات المتوسطة والصغيرة في الناتج القومي المحلي. حتى لا نذهب بعيداً، فإن الصين شهدت انخفاضاً ملحوظاً في معدل مساهمة الأيدي العاملة في إجمالي الناتج المحلي بسبب استخدام التكنولوجيا الحديثة بدلاً من الأيدي العاملة.
في ضوء ما سبق نرجو أن يفطن السعوديون إلى حجم التغيرات والتطورات التي ستؤثر بلا شك في السوق المحلية السعودية. والمطلوب ــ كما أشرنا ــ أن يستعد الإنسان السعودي للتأقلم مع متطلبات الأسواق الجديدة؛ بل المطلوب من السعوديين المشاركة في صناعة الحلول، وأن يكونوا جزءاً لا يتجزّأ من العالم الجديد.