الأرجنتين .. ماكري و«عصا» الإصلاح الاقتصادي

الأرجنتين .. ماكري و«عصا» الإصلاح  الاقتصادي

يبدو أن الآمال المعلقة على الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري، قصد طي صفحة مكلفة في تاريخ البلاد؛ ناجمة عن سوء الإدارة الاقتصادية، واستعادة الأرجنتين لمكانتها على الصعيد العالمي كـ"دولة عادية" بدأت في التراجع، بعد مضي زهاء حولين ونصف على توليه رئاسة ثاني أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية بعد البرازيل، بناتج محلي إجمالي يبلغ 600 مليار دولار.
عادت البلاد إلى دائرة الأضواء في الأسابيع الماضية، بسبب محاولات احتواء اضطراب العملة، من خلال رفع أسعار الفائدة إلى مستوى كبير، في إطار تدفقات رأس المال المزعزعة للاستقرار. حيث اضطر البنك المركزي إلى رفع الفائدة المحلية ثلاث مرات الأسبوع الماضي؛ وبشكل فاجئ الجميع، لتصل إلى 40 في المائة. وبلغ الرفع الأخير 12 نقطة مئوية دفعة واحدة، لوقف تدهور قيمة العملة المحلية «البيزو» التي تراجعت بنسبة وصلت إلى 15 في المائة أمام الدولار، ووصلت مستوى قياسي بلغ 22.25 بيزو للدولار.
يرى كثير من المراقبين أن هذا الاضطراب بمنزلة أول اختبارات السوق الجادة لأجندة ماكري الإصلاحية، الذي وعد الناخبين بالحصول على دعم من المستثمرين ومعظم الأرجنتينيين، قصد مباشرة تنزيل قرارات قاسية للتغلب على إرث سنوات خلت، وإزالة التشوهات الاقتصادية المتراكمة عن المرحلة السابقة. من جملة ما جاءت به تلك الإصلاحات، قصد تخليص الاقتصاد من الحالة السيئة التي وصل إليها تحت حكم أسلافه اليساريين، إصلاح الإحصاءات الرسمية التي تم تشويهها عمدا لإخفاء الحالة الضعيفة للاقتصاد. إضافة إلى إلغاء السياسات والتعريفات الحمائية المفروضة؛ قصد عودة المستثمرين الأجانب، مع تطبيق تدابير تقشفية لخفض العجز في الموازنة؛ بعد أن اتسع تحت حكم اليساريين، وإصلاح نظام المعاشات الذي كان يستهلك ثلث الموازنة الحكومية، قبل أن يصل إلى النصف في فترة رئاسة "كيشنر".
يعتمد هذا "المصلح الاقتصادي" في خطته على استراتيجية تقوم على ركيزتين؛ لتثبيت الاستقرار الاقتصادي، هما: استهداف التضخم على أساس أسعار الفائدة، والخفض التدريجي لعجز الموازنة الأولي. لكن خبراء الاقتصاد يرون في خيارات ماكري مغامرة غير مسحوبة العواقب، فالقول بأن سعر الفائدة الأعلى سيترجم فورا إلى تضخم أقل، ينطوي على تضليل واضح، فهذه الآلية غير مباشرة وغير مضمونة. كما أن استهداف التضخم لا يكون فعالا إلا عندما يطبق على الاقتصادات التي تشهد نموا مستقرا ومستداما، وهو ما لا يتحقق في الحالة الأرجنتينية.
يجد نهج ماكري تفسيرا له في محاولة البنك المركزي الأرجنتيني استنساخ استراتيجية البنك المركزي الأوروبي، المعمول بها سنة 2012 من أجل إنقاذ اليورو. لكن الوضع في السياق الأرجنتيني مختلف تماما عما كان عليه الحال في أوروبا، ببساطة لأن الأمر يتجاوز قدرة السلطة النقدية.
يعد فقدان المصداقية في السياسات أبسط وأكثر التفسيرات مباشرة لمعضلة الأرجنتين، فهذا التدهور مكلف، خاصة للاقتصادات التي تعاني من الضعف، بسبب تاريخ من السياسات المتغيرة.
تاريخيا، كانت البلاد في وقت من الأوقات، واحدة من أغنى الدول في العالم حتى أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، بسبب مواردها الزراعية والمعدنية الكبيرة وشعبها المتعلم. لكن أيضا لديها تاريخ طويل من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. فقد شهدت ستة انقلابات عسكرية دموية بين عامي 1930 و1976، كان أقواها الذي قاده الديكتاتور خورخي فيديلا.
استمرت الديكتاتورية العسكرية حتى عام 1983 حيث تمت العودة إلى الديمقراطية مع انتخاب راؤول ألفونسين، لتبدأ البلاد السير في الطريق الصحيح، لكن كمية الديون وفوائدها كانت تكبل الدولة؛ فكلما تقدمت خطوة إلا وتراجعت فيها بسبب أقساط الديون وفوائدها. لكن إجمالا كان الاقتصاد يسير للأمام، وكانت الفترة الذهبية مع الرئيس كارلوس منعم (1989 - 1999)، حيث انخفضت معدلات البطالة، وتراجعت نسب الفقر من 38 في المائة إلى 13 في المائة.
ثلاث سنوات بعد نهاية حكمه، سوف تدخل البلاد في أزمة اقتصادية حادة في عام 2001، بعد تخطى المديونية الخارجية لحاجز 132 مليار دولار. لتصبح هذه الديون الشغل الشاغل لواضعي السياسات الاقتصادية، بسبب الديون المتراكمة التي أدت إلى عدم استقرار سياسي.
يكفي دليلا على مدى قوة هذه الأزمة أن نشير إلى تعاقب أربعة رؤساء البلاد خلال أقل من سنة، دون أن يكون بمقدور أي منهم إزاحة شبح الإفلاس عن الدولة. بعدما وجدت نفسها غير قادرة على الوفاء بديونها، أو على الأقل الحصول على أموال من جهات خارجية، لدفع ثمن ما تستورده من البضائع والسلع.
طيلة عقد من الزمن، لم يبتعد طيف الإفلاس عن سماء بوينس آيرس، حيث وجدت الأرجنتين نفسها للمرة الثانية عاجزة عن تسديد ديونها عام 2014، بعد انهيار محادثات الماراثونية بين الحكومة وحاملي السندات بهدف تجنيب البلاد الغرق في الديون. إذ طالب المستثمرون بدفع كامل مستحقاتهم، البالغة 1.3 مليار دولار.
مبلغ لم يكن بمقدور خزينة البلاد تحمله، ما دفعهم المسؤولين إلى اتهام المستثمرين باستغلال أزمة الديون لتحقيق أرباح ضخمة. منذ ذلك الحين والصراع على أشده بين رجال السياسة وخبراء الاقتصاد، بحثا عن البدائل والخطط الممكن لإخراج البلاد من عنق الزجاج.
يبقى الدرس المستفاد من تتبع مسار دولة الأرجنتين هو أن النظام الاقتصادي قادر على تدارك وإصلاح أخطائه ولو بعد حين، على غرار ما وقع في عديد من الدول. شريطة أن يتعزز بعنصري الثقة والمصداقية السياسية، وهو ما افتقدته الأرجنتين طيلة العقود الماضية، ما جعل البلاد رهينة شبح الإفلاس. فهل يستطيع ماكري فك شفرة هذه المعادلة كما فعله سلفه كارلوس منعم؟

الأكثر قراءة