محاذير اقتصادية تنموية
حضرت ندوة اقتصادية تعنى بالتحديات التي تواجه الاقتصاد الريعي ما عزز مفاهيم لدي بمدى تعقيد التحولات الاقتصادية. التحول الاقتصادي دائما صعب ولكنه أصعب حين يكون مقرونا بالتحديات التنموية في منطقة من العالم الجغرافيا السياسية فيها غير متعاونة. التحدي التنموي يشمل دوائر متعددة، حيث إن الاقتصاد أحدها. محاولة التعامل مع التحدي التنموي أفقيا ورأسيا تظهر جلية في محاولة إيجاد التوازن بين العدالة والفعالية وبين السرعة والتعمق أو بين الانضباط والدقة وأخيرا إيجاد الفضاء العملي بين الصعب والسهل الممتنع. حين يكون هناك تهديد متواصل على النفط لا بد أن تأخذ الأبعاد حساسية أعلى. في ظل هذه الخلفية لا بد من ذكر بعض المحاذير.
لا بد من التفريق بين الدائرة التنموية وجزئها الاقتصادي. الأولى أشمل أفقيا وأطول مدى، بينما الاقتصاد أقرب للعوامل التي يمكن قياسها وأقرب في العلاقة بحاجات الناس المعيشية. الأولى في دوائر الرؤى البعيدة ولذلك غالبا لا تتعامل بالأرقام ولكن مع المقارنات في المستوى بالدول الأكثر تقدما، إذ يسهل أن تعرف الفرق في الحالة التنموية بين كوريا وتركيا ومصر، ولكن المقارنات الاقتصادية مختلفة في القياس. فمثلا حققت مصر تقدما في استغلال القطن تنمويا ولكنها لم تحقق اختراقا اقتصاديا قابلا للاستدامة ولذلك انحدرت تنمويا. الاستدامة تتطلب تعاملا اقتصاديا مختلفا لم تجده النخب في حينه.
المحذور الثاني يأتي في ضعف المفهوم أحيانا ما ينطلي على الممارسات، فغالبا ما يذكر ويمرر على أنه اقتصادي وما هو إلا قرارات وسياسات مالية تعنى بالتوزيع بطريقة أو أخرى. عمليا هذه ناحية مفصلية إذا غاب المنظار التنموي كما ذكرت في المحذور الأول. فمثلا أحيانا هناك حاجة إلى سياسات مالية توسعية لدعم النمو أو التعامل مع دورات الأعمال ولكن المبالغة أو النزعة الطبيعية للاستمرار في النهج المعتاد تقود إلى توظيف ناقص للمال. الطامة التاريخية الكبرى في الاقتصادات الريعية في صعوبة التفريق بين تضخيم الاقتصاد والنمو الاقتصادي العضوي، وبالتالي تضيع حسابات الإنتاجية التي هي محرك النمو الحقيقي. هذا المحذور يقود إلى طبيعة توظيف المال. من علامات الظاهرة كبر حجم الميزانية قياسا على الدخل القومي الإجمالي وقلة الاستثمارات كنسبة من الميزانية. هذا ما حدث في بلاد كثيرة، هذا يقودنا للمحور الثالث.
أرى أن توظيف المال هو نقطة البداية اقتصاديا لسببين الأول أن المال آلية لإدارة التحفيز الاقتصادي والآخر أن المال مقياس لمستوى المخاطر. السبب الأول حاسم في التقدم والآخر يسهل التلاعب به تحت اعتبارات استهلاكية دون تمحيص. عمليا أحد مظاهر الاقتصادات الريعية محاولة الحفاظ على حياه الرفاهية لأكبر عدد ولأطول مدة ممكنة على حساب توفير المال للاستثمارات. الإشكالية الفرعية أن التمادي في هذا الاتجاه يقلل تدريجيا الكفاءة والنوعية في الاستثمارات ما ينعكس تفاعليا مع جودة التعليم.
هناك اقتصادات ريعية تفشل مثل فنزويلا وهناك أخرى فشلت في الماضي مثل مصر، لذلك أعتقد أن الوعي بالمحاذير هو الخطوة الأولى ليس لصفاء الذهن وتجنب المخاطر فقط ولكن لتأسيس منظومة متماسكة قادرة على فهم المراحل واختزال الخطوات.