جودة الحياة ضرورة لتنمية الإنسان المتوازنة
يقال: "ليس المهم أن تعيش، ولكن أن تعيش جيدا". لذلك ينبغي أن تشتمل تنمية الإنسان على جميع المجالات التي تمس حياته، ومنها الاقتصاد والتعليم والصحة والرياضة والترفيه واستدامة البيئة التي يعيش فيها. ورفع جودة الحياة من خلال تحسين البيئة الحضرية ينبغي أن يحظى بالأولوية، لأن الأغلبية الساحقة من السكان (أكثر من 83 في المائة) يعيشون في المدن، ويعانون ندرة الأنشطة الترفيهية، ما يؤدي إلى النزيف السياحي في الدول المجاورة كلما سنحت الفرصة، كما تعاني معظم المدن السعودية كآبة الحياة لعدم وجود البنية التحتية المناسبة لممارسة الأنشطة الترفيهية والرياضية، الأمر الذي انعكس على صحة السكان وإصابتهم بكثير من الأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم والكآبة، وقد كتبت عن ذلك وغيره كثيرا. لذلك جاءت وثيقة "برنامج جودة الحياة" شاملة لجميع جوانب الحياة مع التركيز على تحسين البيئة الحضرية وتوسيع الخيارات أمام المواطن والوافد. فقد حان الوقت للنظر إلى تنمية الإنسان بشمولية من أجل بناء المواطن الذي يتمتع بهوية وطنية متوازنة ما بين القيم والأخلاق والانتماء، بعيدا عن التناقضات السلوكية.
وبناء على هذا البرنامج وغيره، فإن المملكة العربية السعودية تمر بمرحلة تحول تاريخية هائلة، تنقل المجتمع من مجتمع ريعي استهلاكي إلى مجتمع منتج منافس، ومن مجتمع طارد من حيث الترفيه والسياحة إلى مجتمع جاذب للسياحة، ومن قطاع خاص يقتات على الإنفاق الحكومي إلى قطاع خاص يقود المبادرات التنموية، ومن مجتمع تكون الوصاية فيه للمؤسسات المجتمعية من أجل ضبط الالتزام بالقيم والسلوكيات إلى مجتمع تكون الأسرة هي محور التربية والتنشئة بالدرجة الأولى مع تعزيز وجود القدوة الحسنة في المدرسة والمسجد والعمل.
وعلى الرغم من وجود بعض الجهود السابقة التي تسعى لتحسين البيئة الحضرية بطرق مباشرة وغير مباشرة، إلا أنها مبعثرة ولا تنظر لركائز جودة الحياة بشمولية كما فعل برنامج "جودة الحياة" الذي تم إطلاقه قبل يومين. فقد اشتمل على جوانب متعددة وأهداف متنوعة، منها تعزيز القيم الإسلامية والهوية الوطنية من خلال تعزيز التسامح والقيم الوطنية والانتماء الوطني، وكذلك "تمكين حياة عامرة وصحية" من خلال الوقاية من المخاطر الصحية، ورفع جودة الخدمات المقدمة في المدن، وتحسين المشهد الحضري، إلى جانب أمر في غاية الأهمية وهو تعزيز ثقافة العمل. كما تتضمن الأهداف تمكين المسؤولية الاجتماعية من خلال تشجيع العمل التطوعي ودعم نمو القطاع غير الربحي. كما تهدف إلى تعزيز الأنشطة الرياضية وتحقيق التميز في عدة رياضات إقليميا وعالميا، وتطوير وتنويع فرص الترفيه لتلبية احتياجات السكان، وتنمية المساهمة في الفنون والثقافة. لا شك أن جودة الحياة كانت ولا تزال هاجسا في أذهان كثير من الباحثين والمهتمين بالتنمية الحضرية، فقد عملنا في مركز الدراسات السكانية على إعداد مؤشر تصنيف المدن السعوديـــة Saudi Arabia’s City Ranking Index الذي يعتمد على ثلاث ركائز هي: قابلية العيش Livability، والتنافسية Competitiveness، والاستدامة البيئية Environmental Sustainability، وكل من هذه الركائز يتكون من معايير متعددة، ليصل العدد الكلي للمعايير إلى 44 معيارا.
ولكن من العوائق التي تحد من تطوير كثير من المبادرات والخدمات النقص الحاد في البيانات على مستوى المدن، فما يتوافر من الجهات المسؤولة يصنف على مستوى المناطق الإدارية، وقليل من البيانات فقط يتوافر على مستوى المحافظات، وهذا يجعل الدراسات الحضرية متأخرة جدا ووصفية بعيدة عن الإبداع، ولا تواكب طموحات الرؤية. ولا شك أن تحقيق ولو جزء من أهداف برنامج "جودة الحياة" إلى جانب برامج "رؤية 2030" الأخرى سيسهم في إحداث نقلة نوعية تاريخية هائلة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والترفيهية.