العقلية التجارية
غالبا ما يوصف العربي بأن لديه نزعة تجارية. هذه نزعة حميدة، حيث تدل على الرغبة في المبادرة والاستعداد للمخاطرة والمرونة والاعتماد على النفس، ولكن هناك تبعات مجتمعية إذا أصبح السلوك التجاري هو المسيطر على المجتمع وبوصلته المجتمعية اقتصاديا. بل إن هناك مخاطر إذا لم يحسن المجتمع تهذيب وتسخير مقومات العقلية التجارية كي تكون أكثر نفعا في البيئة الجديدة الأكثر تعقيدا، حيث تحتاج إلى مقومات أخرى، إضافة إلى تفكير التاجر. موضوعيا، التجارة أحد النشاطات الاقتصادية الضرورية المستمرة، ومرحليا تأخذ دورا أكبر في البدايات، ومرحليا أيضا تلعب دورا أكبر لمجتمع صغير. حين ترتفع درجة التعقيد في السلم الاقتصادي لا يمكن للتجارة أن تكون المحور الأهم اقتصاديا. ولكن، التحدي الكبير ليس في تحليل الاقتصاد قطاعيا، بل في توظيف العقلية التجارية في مرحلة تتطلب مركزية التصنيع والتنظيمات الأكثر تعقيدا وتحديا فكريا.
للتجارة خصائص اقتصادية وتنظيمية، منها أن الإطار القانوني والتنظيمي عائلي في الغالب، ولذلك فهو محصور، وزاد عليه أنه في الغالب امتداد لشركة أجنبية، من خلال وكالة مع الوقت تصبح مريحة وبعائد مجز دون حاجة للتطوير والإبداع. كثيرون يعرفون مصير العائلات التجارية حين تكبر، إذ يقال إن الجيل الأول يبدأ والجيل الثاني يحافظ والجيل الثالث يخسرها، وبالتالي تنتقل الوكالة لعائلة جديدة دون قيمة مضافة مجتمعيا. اقتصاديا، تأثير التجارة مختلف عن طبيعة الصناعة، فالترابط الاقتصادي تجاريا أفقي، بينما في الصناعة رأسي. الترابط الأفقي شخصي وليس فنيا. الأفقي هش، بينما الرأسي عميق ومعرفي. الأفقي يدور حول الحصول على المال فقط، بينما الرأسي مرتبط بعملية إنتاجية. فدوران النقود في النظام المالي، أقل في التجارة منه في الصناعة. أيضا، التجارة لا تتطلب تعليما متميزا أو أبحاثا، خاصة حين تكون وكالة لسلع معروفة معمرة. مع الوقت، يصبح هامش التجارة ضعيفا، ولكن العائد على رأس المال عال، ولذلك يستمر النمط، خاصة في الدول التي لا تحظى بمستوى منافسة عال.
من خصائص التجارة أنها لا تحتاج إلى تعليم عميق، وبالتالي يتكون نموذج وقدوة لا تأخذ بالتعليم العميق كمنهج للتفكير أو حتى الإدارة، لأن نماذج الأعمال بسيطة. هذا النموذج أخذ دفعة من تبعات الطفرة المالية ومتابعتها من موجات مضاربية في الأسهم والأراضي، أسهم في تكوين نخبة بين وسط الأعمال ذات تكوين سلوكي يعظم التجارة على حساب الصناعة والابتكار والتعليم. أصبح النموذج السائد نفعيا قصير الأجل، من أعراضه النظر إلى الوظيفة العامة تجاريا، حيث تصبح مراهنة على الاستغلال وليس النمو أحيانا. من الإفرازات الواضحة التعلق بالشهادات على حساب المضمون العلمي إلى أن أصبح التوثيق الأكاديمي ضعيفا وغير قادر على مجاراة الدول المتقدمة. من حالات التكيف التجاري، بعض تجليات ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي، على الرغم من التكلفة الإدارية والاجتماعية.
ما الحل؟
يتهمنا كثيرون بجلد الذات دون تقديم حلول، ولذلك أرى أن الحل الحقيقي يتم باعتناق المنافسة في كل شيء، قدر الإمكان وتدريجيا، ولكن لا بد للبوصلة أن تشير للجميع بالمنافسة في التجارة والتعليم وغيرهما، وعلى جميع المستويات، خاصة في التعليم العالي كنقطة بداية. المنافسة كفيلة بإعادة الاصطفاف وتسعير الخدمات والأجور وتقنين الأدوار، وفي الآخر الانكشاف على الميزات التنافسية اقتصاديا.