اقتصاد الشرق الأوسط في حالة تغيير «3 من 3»
لا تزال إصلاحات المالية العامة أهم رافعة من روافع السياسة لتشجيع النمو الاحتوائي. ويمكن للبلدان التي تمتلك هوامش وقائية أكبر في ماليتها العامة ومستويات مديونية أقل أن تقوم بتخفيض العجز تدريجيا لتجنب تعطيل النمو بلا داع. أما البلدان التي تعاني عجزا كبيرا ومستويات مديونية مرتفعة، مثل الأردن ولبنان وموريتانيا، فينبغي أن تكثف جهودها المبذولة لتخفيض العجز.
من الطرق الممكنة لتخفيض العجز تعبئة مزيد من الإيرادات من خلال توسيع القاعدة الضريبية. ويبلغ متوسط نسبة الضريبة إلى إجمالي الناتج المحلي في المنطقة أقل من 10 في المائة، وهي نسبة منخفضة مقارنة بمتوسط الأسواق الصاعدة الذي يبلغ 18 في المائة. وسيساعد في هذا الخصوص أيضا تخفيض الإعفاءات، ومكافحة التهرب الضريبي، وتطبيق ضرائب أكثر تصاعدية على الدخل الشخصي، إضافة إلى تقليص فاتورة الأجور الباهظة في القطاع العام. ويشكل كل هذا نحو 10 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في دول مجلس التعاون الخليجي الست، مقارنة بمتوسط 6 في المائة في الاقتصادات الصاعدة والنامية ككل. وسيساعد تضييق الفارق بين أجور القطاعين العام والخاص على استيعاب 27 مليون شاب من المتوقع دخولهم سوق العمل في السنوات الخمس المقبلة، علما بأن كثيرا من الشباب المؤهلين يفضلون البقاء دون عمل لفترات طويلة في انتظار توافر وظائف مجزية في القطاع العام.
وقد أوضحت تجربة بعض البلدان بالفعل أنه يمكن استخدام الوفورات التي تحققها مثل هذه الإجراءات لزيادة الاستثمار والإنفاق على الخدمات الاجتماعية الضرورية. فهناك أحد عشر بلدا استعاضت عن دعم الوقود الذي يطبق على كل السكان بتحويلات نقدية موجهة إلى الفقراء. ومن بين هذه البلدان مصر، التي رفعت التحويلات النقدية الموجهة بمقدار عشرة أضعاف لتصل إلى 1.7 مليون أسرة على مدار عامين. ولكن التقدم متفاوت، وثمة حاجة إلى زيادة الإنفاق الاجتماعي لتحقيق تحسن ملموس في النمو ومستويات المعيشة على المدى المتوسط. وسيساعد في هذا الصدد التعجيل ببيع الشركات المملوكة للدولة – وكذلك اختيار وإدارة مشروعات تحقق عائدا اقتصاديا كبيرا لتحسين جودة الاستثمارات العامة.
ومن خلال زيادة فرص التمويل، ستقطع هذه البلدان شوطا طويلا نحو تشجيع نشاط القطاع الخاص. فنحو ثلثي السكان لا يملكون حسابات مصرفية، كما تبلغ نسبة القروض المصرفية التي تقدم للشركات الصغيرة والمتوسطة 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وهي من أقل النسب على مستوى العالم. ومن شأن تحسين إمساك الدفاتر في الشركات أن يزيد من فرص الحصول على التمويل لأنه يتيح للبنوك تقييم المخاطر الائتمانية بسهولة. كذلك ينبغي تحقيق مزيد من التطور في أسواق رأس المال حتى يسهل على الشركات الحصول على التمويل من خلال الأسهم والدين.
ونظرا لأن 60 في المائة من سكان المنطقة يستخدمون الهواتف المحمولة، فإن التكنولوجيا المالية تقدم فرصة لتوفير الخدمات المالية لعدد أكبر من المستهلكين. لكن معظم بلدان المنطقة لم تعتمد إصلاحات تسمح للمؤسسات غير المصرفية بدخول هذا المجال. وينبغي للأجهزة التنظيمية أن تضع أطرا تشجع الابتكار مع حماية خصوصية المستهلكين والبيانات ومنع أنشطة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وبشكل أعم، يمكن للتكنولوجيا أن ترفع الإنتاجية والنمو. وهناك فرص كبيرة واعدة تقدمها التكنولوجيا الخضراء على وجه الخصوص، بما في ذلك الطاقة الشمسية. ولكن بينما يمكن للتكنولوجيا أن تجعل العمالة أكثر كفاءة وتوفر فرص عمل في القطاعات الجديدة، فقد تتسبب أيضا في إلغاء الحاجة إلى بعض الوظائف. ويمكن أن يستمر اتساع فجوات الدخل والتوظيف إذا لم تحدث إعادة إدماج هذه العمالة في الاقتصاد على نحو فعال.
ومن هنا تأتي أهمية تحسين التعليم والتدريب. وفيما عدا بضعة بلدان، مثل البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية، نجد أن نسبة البالغين في سن العمل الحاصلين على تعليم بعد الثانوي أقل بكثير من المتوسط العالمي البالغ 17 في المائة. وينبغي زيادة تركيز العملية التعليمية على المهارات التي يتطلبها أصحاب الأعمال في الصناعات المختلفة مثل الإلكترونيات والسيارات والطائرات والتكنولوجيا المالية.
وسيكون التعليم عاملا أساسيا أيضا في تشجيع المساواة بين الجنسين. فمعدل مشاركة النساء في سوق العمل لا يتجاوز ثلث مشاركة الرجال. وتساعد السياسات التي تشجع المرأة على العمل، مثل ساعات العمل المرنة وخدمات رعاية الطفل، على إدخال أعداد أكبر من النساء في سوق العمل الرسمية وتعزيز الإنتاجية والنمو. ولكن هذه السياسات هي البداية فقط. فمن الصعب أن نتصور مستقبلا اقتصاديا مشرقا للمنطقة دون تغييرات عميقة في التصورات الجامدة للأدوار الاجتماعية ومساهمات الجنسين. وينبغي أن تكون المساواة في فرص الحصول على التمويل والتدريب والتكنولوجيا هي ركيزة تمكين المرأة والسماح لها بالمنافسة على قدم المساواة مع الرجل.
إلى جانب نقص الوظائف، كان الفساد وعدم الكفاءة من أسباب الاستياء الشعبي الذي أشعل انتفاضة المنطقة. ولن يقتصر أثر تحسين الحوكمة على المساعدة في علاج الشكاوى الاجتماعية، بل إنه سيؤدي أيضا إلى تعزيز ثقة الأعمال وزيادة الاستثمار. فلا يزال ترتيب معظم بلدان المنطقة في النصف الأدنى من المؤشرات العالمية التي تقيس قدرة الحكومات على العمل الفعال والسيطرة على الفساد، كما أن هذه المراتب تدهورت في السنوات القليلة الماضية .
ويعتبر الدمار المترتب على الحرب أكبر اختبار للجميع. فاللاجئون بحاجة إلى الغذاء والمأوى والتعليم والمساعدة على العثور على فرص عمل؛ والبلدان المضيفة لا طاقة لها بتحمل هذه الأعباء وحدها. وعندما تنتهي الصراعات، ستكون المهمة التالية هي تعبئة الموارد اللازمة لإعادة بناء البنية التحتية والمؤسسات وإعادة النازحين إلى سوق العمل. وغالبا ما يكون نمط التمويل متقلبا بالنسبة للبلدان الخارجة من مرحلة صراع، ما يتطلب تنسيقا قويا على المستوى الدولي لضمان حصولها على الدعم الكافي. وينبغي أن يكون التمويل الرسمي في صورة منح أو يقدم بشروط على درجة عالية من التيسير، كما ينبغي أن تكمله تدفقات كبيرة من القطاع الخاص، بما في ذلك التبرعات وتحويلات العاملين.