هل من أفكار خارج اللغة .. الكلمات تسأل والكلمات تجيب
العلاقة بين اللغة والفكر قضية طال الجدل حولها وما زال؛ والسؤال التقليدي المطروح: هل الفكر يسبق اللغة؟ أم اللغة تسبق الفكر؟ وفي هذا السياق نطرح سؤالا آخر: هل نمتلك القدرة على إجابة عن مثل هذا السؤال؟ ثم لماذا نهتم بالبحث عن الأسبقية فيهما؟ يقول جاك دريدا "لا وجود لشيء خارج النصوص"، وبالتالي لا وجود للأفكار خارج اللغة. وبناء على تلك المقولة نحن البشر نوجد تصورنا ورؤيتنا للعالم باستخدام اللغة. وذلك ما تؤكده النظرية النسبية اللغوية لسابير وورف التي تقول إن اللغة والثقافة تؤثران في اعتقادات الناس. فإذا لم يكن لديك كلمة تعبّر بها عن فكرة ما. فلن تستطيع التفكير فيها. مثلا: إذا لم تكن تعرف كلمة "ماهوغاني" فلن يمكنك التفكير في اللون "الماهوغاني". إن النسبية اللغوية أحد العوامل التي تؤثر فينا وتجعلنا نرى العالم بشكل مختلف. أي أن اللغات المختلفة تعني رؤى مختلفة للعالم. فالأفكار لا توجد بدون اللغة، إذ لا نستطيع التفكير في شيء أو مفهوم خارج إطار اللغة. وبالتالي فاللغة أداة معرفية تحدد علاقتنا بالوجود. لكن من أين جاءت اللغة إذا كنا غير قادرين على التفكير من دون اللغة؟
إذا سلّمنا بمبدأ النسبية اللغوية بصورتها المتطرفة؛ فإننا ننكر بذلك كثيرا من الأفكار التي لا تتخذ شكل كلمات أو جمل لغوية، وهي أفكار تحدث عند الأطفال الرضّع الذين لم يتعلموا الكلام بعد، وأشكال التفكير التي تظهر في سلوك الحيوانات، إضافة إلى صور التفكير التي تحدث عند البالغين بدون لغة حينما نفكر بالصور المرئية. ومن هنا نحن لا ننكر العلاقة شديدة الارتباط بين اللغة والفكر؛ لكنّ اللغة ليست تفكيرًا. اللغة طريقة للتعبير عن الأفكار. ولها دور كبير جدا في التأثير في الأفكار أيضا، وربما أوجدن أفكارا جديدة ليس لها وجود مثلما يحدث في الأوساط العلمية أو ما يسمى بمراكز صناعة الأفكار Think Tanks.
إن اللغة من أهم موضوعات العلوم الإنسانية، إذ لا يمكن للباحث في أي علم من العلوم الإنسانية أن ينفذ للإنسان ويفهمه إلا من خلالها. وتبرز أهمية اللغة في كونها هي الأداة الأساسية للتعاون البشري. حيث نتشارك المعرفة وننظم أفعالنا بواسطة اللغة، أو من خلال ما نقوله تحديدا. في هذا المقال مثلا نحن نتشارك معرفة اللغة عبر اللغة. أستطيع جعلك أنت أيها القارئ الآن أن تفكر في شيء ما عن طريق كتابته، وبالتالي أحملك على فعل شيء ما، أو الإحساس بشيء ما.
إن إنتاج الأفكار يعني إنتاج الكلمات. الفكرة إذا كانت صورة ذهنية لم ترتبط بالكلمة فهي بالتالي مجرد فكرة في ذهن الإنسان. فالأفكار لا تنتقل بدون اللغة. ولا تفهم بشكل سليم إلا في سياق الثقافة التي أنتجتها. لا يمكن فهم مصطلحات مثل السقاية والرفادة إلا في سياق الثقافة العربية لأنها مصطلحات تحمل دلالة دقيقة ومحددة في المجتمع العربي الذي أنتج هذه الكلمات. أو مصطلحات مثل الحرية الفردية والديمقراطية لا يمكن أن نفهمها منفصلة عن ثقافة المجتمع الذي ولدت فيه وهي تحمل دلالة محددة ودقيقة في السياسة الغربية. ثم إن ثقافة المجتمع الذي أنتج هذه الكلمات غير كافٍ وحده لفهم دلالة الكلمة، إذ لا بد من تفسير دلالتها من سياق استخدامها ثقافيا ولغويا، إضافة إلى معرفة المفاهيم الأخرى التي ترتبط بمفهومها. ولا يكفي ذلك لفهم معنى الكلمة بصورة دقيقة. وهنا نسأل مثلا: هل تحيل كلمة الحرية في اللغة العربية إلى فكرة الحرية؟ ما المقصود بفكرة الحرية في المفهوم العربي أو في المفهوم الغربي؟ الحرية لمن؛ للفرد أو للمجتمع؟ يبدو واضحا أن مفهوم الحرية في السياق العربي متتازع عليه. وذلك لأن فكرة الحرية وُلدت في ثقافة ثم سمّيت في ثقافة أخرى عن طريق ما نسميه بالترجمة.
إن المُشكل الذي يواجهنا مع الفكرة التي نستوردها أونقترضها من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية، تبرز في اتجاهين: إما الشعور بالانبهار أمام هذه الفكرة مع الإحساس بالنقص أمام الثقافة الأجنبية وكثافة إنتاجها، والاتجاه الثاني يخاف من الفكرة الجديدة ويتوجس منها ويحللها بأدوات المؤامرة. كلا الاتجاهين هنا يحرف المعنى عن لفظه ويفسد دلالة الكلمات؛ لأن كلاهما سينشغل "ويُشغلنا أيضا" الأول في إبراز الفكرة والدفاع عنها، والآخر سينشغل بمحاربتها ومحوها. وهنا تضيع دلالة الكلمة بينهما.
تسمح اللغة لنا بالتواصل، لكن إلى أي مدى تسمح لنا بالتفكير؟ إن اللغة وسيلة اتصال وهي في ذات الوقت عائق كبير دون الاتصال حين تكون لغة المتكلم مختلفة عن لغة المخاطب، أو تكون ثقافة المتكلم تختلف عن ثقافة المخاطب. إن اللغة نظام علامي رمزي والثقافة في جوهرها نظام رمزي أيضا. والتفكير يصوغ اللغة، ووحدات التفكير هي التي تحدد البناء اللغوي ومظاهره المختلفة. ثم إن اللغة تؤثر في التفكير وتصوغ الفكر. وهنا نرى الفكر واللغة يدوران في حلقة واحدة وكل منهما سابق على الآخر في جانب.