رحل «السيد قلق» وجاء «السيد تلفيق»
حينما التأم جميع دول العالم في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية في أكتوبر 1945 كان رائدها هو بناء كيان أممي على أنقاض عصبة الأمم، يعمل من أجل الأمن والسلام والعدالة والمساواة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما تم وضع المواثيق والآليات التي تحدد دور هذا الكيان الجديد وترسم مهامه.
من تلك اللحظة توالى على قيادة منظمة الأمم المتحدة أمناء عامون كثر من بلدان مختلفة. فطبقا لميثاق الأمم المتحدة يذهب منصب الأمين العام مداورة إلى الكتل الإقليمية الممثلة في المنظمة لمدة خمس سنوات قابلة للتمديد لفترة مماثلة، على أن ينتخب شاغله بالتصويت السري من قبل الجمعية العامة بناء على توصية من مجلس الأمن الذي يلعب أعضاؤه الدائمون الخمسة دورا حاسما في العملية، وجرى العرف ألا يسند المنصب إلى شخصيات من دول غارقة في نزاعات إقليمية أو صاحبة طموحات وأجندات عالمية أو ذات أنظمة قمعية متوحشة أو تكرر منها خرق مبادئ وقرارات المنظمة.
ويمكنني القول بثقة، إنه باستثناء الأمين العام الثاني للمنظمة السويدي "داج همرشولد" الذي كان صاحب كاريزما وحركة ونشاط واستقلالية في لعب أدوار لمصلحة حل الأزمات الدولية بعيدا عن إملاءات القوى الكبرى، بدليل الدور الإيجابي للمنظمة في عهده لجهة حل أزمات عالمية وإقليمية دون الرجوع إلى مجلس الأمن مثل: الأزمة بين الصين الشيوعية والولايات المتحدة، بسبب احتجاز الأولى لمواطن أمريكي عام 1955، أزمة السويس بسبب العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، الحرب الأهلية اللبنانية الأولى عام 1958 وما رافقها من نزول القوات الأمريكية على شواطئ بيروت، والحرب الأهلية اللاوسية عام 1959، والخلاف الحدودي بين لاوس وتايلاند عام 1959، وصولا إلى أزمة الكونغو 1960 التي كانت سببا في مقتله في حادثة الطائرة المشؤومة. فإن كل من جاء بعده لم يكن بمستواه، حتى لانقول، إنه تعدى عن سابق تعمد وإصرار على مواثيق الكيان الأممي عبر التدخل الوقح في الشؤون الداخلية لبعض الدول الأعضاء، هذا ناهيك عن عدم تفعيله إطلاقا لآلية "المساعي الحميدة" Good Offices التي تعطيه بموجب ميثاق الأمم المتحدة الحق في السعي منفردا لجمع أطراف أي نزاع دولي أو إقليمي من أجل التوصل إلى حلول سلمية ومراقبة تنفيذها، دعك من تلطخ سمعته بقضايا فساد وإفساد على نحو ما حدث مع الأمين العام الأسبق الغاني كوفي عنان الذي تبين تورط ابنه "كوجو" في صفقات النفط مقابل الغذاء زمن عراق صدام حسين، علاوة على تلطخ سمعته أكثر نتيجة صمته أو حمايته لموظفين أمميين متورطين في قضايا فساد أو تحرش جنسي بحسب الأخبار التي راجت في نوفمبر 2004.
على أن أكثر الأمناء العامين ــ من وجهة نظري ــ تخبطا وكسلا وجمودا هو الأمين العام السابق الكوري الجنوبي "بان كي مون" أو من اصطلح على تسميته بـ"السيد قلق" كناية عن ضعف إدارته للمنظمة الدولية واكتفائه بإصدار بيانات يعرب فيها عن قلقه بشأن الحرائق الدولية المستعرة بدلا من محاولة إطفائها، وهو ما عرضه لموجة من السخرية حول العالم لم يتعرض له أي من أسلافه. وليت الأمر توقف عند هذا الحد!
لقد تبين أن "السيد قلق" ضالع أيضا في قضايا فساد، بدليل قيام الولايات المتحدة في نهاية عام 2015 بتقديم عريضة أمام محكمة اتحادية في مانهاتن تتهم فيها شقيقه الأصغر وابن شقيقه بتقديم رشوة لمسؤول في إحدى دول الشرق الأوسط من أجل إتمام صفقة بيع مجمع مبان في فيتنام مقابل 800 مليون دولار، وهي الأخبار التي وصفها "مون" فورا بأنها "مقلقة".
وفوق هذا وذاك حول "مون" الأمم المتحدة من كيان معني بتحقيق الأمن والسلم الدوليين إلى كيان يخترق سيادات دولها الأعضاء عبر التدخل في شؤونها الداخلية بصورة فجة. ففي عهده حدث ما لم يحدث من قبل. إذ صار شغله الشاغل هو الاهتمام بحقوق الإنسان وفقا لما يمليه عليه بعض المنظمات غير الحكومية، ولا سيما تلك الخاضعة لأجندات أمريكية وغربية. ومن هنا تسببت المنظمة العتيدة في مشكلات لنفسها مع طائفة من أعضائها. ومثل هذه المشكلات كان من الممكن تفاديها لولا شخص "مون" الضعيف المتخبط المرتهن لمعلومات مغلوطة تــنقل إليه من داخل دهاليز منظمته المسكونة بألف علة وخلل، حيث المافيات التي تنفق من الميزانية الأممية بسخاء على الرواتب وتوظيف الأصدقاء والأزلام، بل دفعهم إلى الواجهة لشغل مناصب لا يستحقونها.
ولسوف يذكر تاريخ الأمم المتحدة أنه في الأشهر الأخيرة من ولاية "مون" تصادم الرجل مع ثلاثة أقطار، لأنه تجاوز الإعراب عن "القلق" إلى ما هو أبعد من ذلك مثل التنديد والاستنكار، وانتقاد أحكام صدرت من قبل السلطات القضائية ضد مدانين بالقتل والإرهاب، ناهيك عن الانحياز مع طرف ضد طرف آخر في قضية إقليمية، الأمر الذي لم تعرفه الأمم المتحدة من قبل.
ففي مارس 2016 تسبب في إثارة المغرب حينما أطلق في الجزائر تصريحا غير دبلوماسي دعا فيه إلى إيجاد حل لقضية الصحراء الغربية بناء على حق تقرير المصير، واصفا علاقة المغرب بالصحراء الغربية بالاحتلال.
وفي أكتوبر 2015 تدخل بصلافة في الشأن الداخلي للمملكة العربية السعودية، حينما دعا، عبر المتحدث الرسمي باسمه، إلى وقف إعدام الإرهابي نمر النمر الذي كان قد صدر عليه ذلك الحكم من قبل السلطات القضائية في محاكمة استوفت جميع الإجراءات القانونية المتبعة، بل صدر عليه الحكم بعد اعتراف الجاني نفسه بكل التهم المنسوبة إليه، ورفضه التراجع عن غيه وعدوانيته وتطاوله وأفكاره الإرهابية. وهكذا تحول قائد أكبر منظمة عالمية إلى محام للشيطان. ولعل مما زاد من استياء المملكة، وهي من أوائل الدول المؤسسة للأمم المتحدة، أن بيان الأمم المتحدة حول هذا الشأن المحلي البحت وصف يوم الحكم ضد النمر بأنه "يوم دموي"، معتبرا محاكمته بأنها "تصفية حسابات سياسية غير عادلة (هكذا).
وعلى المنوال نفسه، أعرب الأمين العام في الثالث من يونيو 2016 عن أسفه وقلقه من قيام السلطة القضائية المستقلة في البحرين ممثلة في محكمة الاستئناف بمضاعفة حكم السجن على المدعو "علي سلمان" أمين عام جمعية الوفاق الشيعية المعارضة، بتهم الترويج لتغيير النظام السياسي بالقوة والتهديد وبوسائل غير مشروعة، وازدراء طائفة من الناس بطريق العلانية، والتحريض ضد وزارة الداخلية وإهانة منسوبيها بوصفهم بـ "المرتزقة". فبدأ موقف "مون" في هذه الواقعة مشابها لمواقف منظمات حقوقية مشبوهة مثل منظمة امنيستي، خصوصا حينما أوضح المتحدث باسمه ستيفان دو جاريك "إن الأمين العام للأمم المتحدة يعتقد أن علي سلمان يجب أن يـصدر عفو بحقه، لأنه كان يمارس بشكل سلمي وقانوني حقه في حرية التعبير وحرية التجمع السلمي".
وعلى قاعدة "إذا كنت رايح، كثــر من الفضايح" اختتم "مون" عهده بقرار غريب ومستهجن لا يتفق مع أبسط متطلبات الدبلوماسية. والإشارة هنا إلى قيامه بإدراج الحوثيين (جماعة ما يسمى بأنصار الله) والتحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية على القائمة السوداء للدول والجماعات المسلحة التي تنتهك حقوق الأطفال في النزاعات والحروب بدعوى أن كلا الطرفين تسببا في القتل والتشويه والهجوم على المدارس والمستشفيات وتجنيد الأطفال والمعاناة الإنسانية، علما بأن الذي يستخدم الأطفال من سن العاشرة وما فوق في حروبه القذرة، ويتسبب في إطالة معاناة المدنيين من أبناء اليمن هو ميليشيات الحوثي والمخلوع صالح وحدهما! وقد بنى الرجل قراره هذا على معلومات واستنتاجات مغلوطة نقلتها إليه الممثلة الخاصة لشؤون الأطفال في النزاعات المسلحة ليلى رزوقي، الجزائرية الجنسية التي تبدو أنها تقتفي أثر زميلها المغربي جمال بنعمر المبعوث السابق للأمم المتحدة إلى اليمن الذي اختفى بعد أن أدى دورا مضللا في الشأن اليمني، بل التي يبدو أنها تخلط ما بين واجبات منصبها ومواقف حكومتها التي لا تساند التحالف العربي في اليمن ولا التحالف العربي/ الدولي ضد الإرهاب في سورية بدليل طريقة تصويتها في اجتماعات الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.
لقد حاولت الأمم المتحدة هنا أن تـظهر نفسها كطرف غير منحاز إلى هذه الجهة أو تلك في الأزمة اليمنية الراهنة، لكن موقفها مفضوح، لأنه لا يمكن مساواة طرف مغتصب للسلطة بالقوة المسلحة، وسارق لمقدرات الشعب اليمني، ومعيق لعودة الحياة الطبيعية، وحائل دون توزيع المساعدات الإنسانية للمتضررين، بطرف يشهد له العالم أنه يدافع عن الحق والشرعية، ويسعى إلى حماية الشعب اليمني المـعتدى عليه من أقلية طائفية مدعومة من دولة إقليمية أدينت بدعم الإرهاب من قبل دول كبرى، إضافة إلى الغالبية الساحقة من دول منظمة التعاون الإسلامي. ونقول إن موقف الأمم المتحدة هنا مفضوح وغير نزيه، لأنه يحاول أن يساوي بين الثرى والثريا، والتبر والتراب، والجلاد والضحية.
وهكذا كان لا بد لنا أن نفرح يوم أن تم اختيار الدبلوماسي البرتغالي أنطونيو جوتيرس أمينا عاما جديدا للمنظمة خلفا لـ"السيد قلق"، بل بنينا عليه الآمال انطلاقا من حقيقة كونه رجل دولة وإدارة وصاحب خبرة طويلة في أروقة الأمم المتحدة، وعانى بنفسه كثيرا العراقيل التي وضعت في طريقه، بسبب "الفيتو" حينما كان مفوضا دوليا ساميا لشؤون اللاجئين ما بين عامي 2005 و2015.
لكن أملنا خاب سريعا. إذ لم يخفق الرجل في إعادة الهيبة إلى منظمته فحسب، وإنما راح يمارس أدوار سلفه لجهة التلفيق وعدم التيقن من المعلومات التي يضمنها تصريحاته ومواقفه حول قضايا الخليج والشرق الأوسط، فتأتي مغلوطة ومستهجنة بحيث تبدو كما لو كانت صادرة من جهات حاقدة ومعادية لمجموعة دولنا من تلك المعششة في أروقة الأمم المتحدة أو من تلك التي باعت ضميرها للشيطان. وهذا بطبيعة الحال يسهم في إحداث حالة من الانشقاقات والخلافات التي تعوق تطبيق أبسط قواعد الشرعية والمبادئ الدولية.
ولعل السخرية تكمن فيما يشبه تراجع الأمم المتحدة في عهد أمين عامها الجديد عما قرره مجلس الأمن الدولي في وقت سابق (القرار رقم 2216) من أن الحكومة اليمنية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي، التي يدعمها التحالف العربي، هي الحكومة الشرعية لليمن، ناهيك عن تجاهل المنظمة الدولية عملية وضع قواعد سليمة لتقييم الحالة الإنسانية في اليمن، وإرسالها لمبعوثين تنقصهم الخبرة والحياد والشفافية، والصمت المريب عن جرائم الحوثيين ومن يساندونهم من الإيرانيين.
أما المرارة فتتجسد في السؤال التالي: لماذا صارت دول الخليج العربية وحدها هي بؤرة اهتمام الأمم المتحدة وأمينها العام، لجهة التنديد والاستنكار، فيما لم يكلف جوتيرس نفسه باتخاذ قرار أو موقف قوي وحاسم يتناسب مع جرائم الإبادة ضد الإنسانية التي تقوم بها إيران والميليشيات التابعة لها في العراق وسورية، بل لم يكلف نفسه حتى باتخاذ قرار ضد أحكام الإعدام الجماعية التي تصدرها وتنفذها حكومة طهران بواسطة الرافعات في الميادين العامة.
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي