الأدب .. قدرة على التكيف رغم الوسائط المتجددة
غير ما مرة ينظر إليك الآخرون نظرة ارتياب، وأنت تقابلهم حاملا في يدك كتابا أو رواية أو قصة أو ما شابه ذلك، مما تزخر به رحاب عالم الأدب الفسيح. فما أكثر وسائل التسلية وتزجية الوقت في هذا الزمان، لدرجة يجد فيها الواحد منا نفسه في غنى عن حمل أثقال، جاد التطور التكنولوجي؛ ولا يزال يجود، بوسائل وتقنيات وتطبيقات تكون بديلا عن ذلك.
فجولة في عالم التغريد (تويتر) ناطاً من حساب لآخر، أشبه ما تكون بقراءة مؤلف من صنف الكتابة الشذرية – المقطعية - ذات سمتي التركيز والاقتضاب، وكأن أصحابها ينتصرون عمليا لمقولة الفيلسوف نيتشه "أحلمُ أن أقول بجملة واحدة، ما يقوله غيري في كتاب"، تكلف بقدر ما تزهد به من الوقت والجهد، وأنت تجري وراء تغريدات أبعد ما تكون عن عالم الطير المحدودة زمانا ومكانا، عكس التغريد الافتراضي حيث العالم لامتناه.
أما في القارة الزرقاء (الفيسبوك)، فالفضاء أكبر أفقا وأكثر اتساعا ليضم الكلمة والصوت والصورة، مكونا فسيفساء تجمع فيها ما تفرق في غيرها. ما يأسر النفوس والعقول والألباب حد الهوس المرضي وبلوغ مرحلة الإدمان، كما تُؤكد ذلك الدراسات المتواترة عن الموضوع.
وقس على ذات المنوال في باقي الفضاءات الاجتماعية؛ كل حسب خصوصيته، التي تحاصرنا من كل جانب، حتى أضحى كثيرون من بيننا بلا كيانات ذاتية (حقيقية) أو يستحْلون "العيشة" الافتراضية أكثر من الحياة الواقعية.
بعيدا عن هذا السجال المستمر، نعود إلى الادعاء المروج له على نطاق واسع، والقائل بإمكانية الاستعاضة عن درر المجال الأدبي بنقرات الألواح والهواتف والشاشات، للقول بأن من لديه الحد الأدنى من القناعة بصواب هذا الرأي، لم يفهم الأدوار التي لعبها الأدب في تاريخ الشعوب والحضارات والأمم.
أدوراها كثفها الفيلسوف الفرنسي من أصل بلغاري تزفيتان تودوروف، في كتابه "الأدب في خطر" في قوله بأن: «الأدب يستطيع الكثير. يستطيع أن يمد لنا اليد حين نكون في أعماق الاكتئاب، ويقودنا نحو الكائنات البشرية الأخرى من حولنا، ويجعلنا أفضل فهما للعالم ويعيننا على أن نحيا. ليس ذلك لكونه، قبل كل شيء، تقنية لعلاجات الروح؛ غير أنه، وهو كشف للعالم، يستطيع أيضا، في المسار نفسه، أن يحول كل واحد منا من الداخل».
إن الأمر إذن أكثر من مجرد تسلية أو إضاعة للوقت أو إشباع لمتع ورغبات فائضة، تختفي بمجرد ظهور أدوات أفضل وأسهل في الاستجابة لها. سيحتفظ الأدب بدور حيوي في حيواتنا، مهما بلغت تطورات التكنولوجيا، شريطة أخذه بالمعنى الواسع والقوي الذي هيمن به في أوروبا حتى نهاية القرن الـ 19، الذي أضحى مهمشا اليوم حين انتصر تصور مختزل على نحو غير معقول، على غرار ما نسمع ونقرأ من حين لآخر.
إن الأدب يقول تودوروف، مثلما الفلسفة، وباقي العلوم الإنسانية، هو فكر ومعرفة للعالم النفسي والاجتماعي الذي نسكنه. والواقع الذي يطمح الأدب إلى فهمه هو، بكل بساطة (لكن، في الآن ذاته، لا شيء أكثر تعقيدا)، التجربة الإنسانية. لذا يمكن القول إن دانتي أو سرفانتيس يعلماننا عن الوضع البشري على الأقل مثلما يعلمنا أكبر علماء الاجتماع وعلماء النفس، وأنه لا تعارض بين المعرفة الأولى والثانية. ذلك هو "الجنس المشترك" للأدب: غير أن له أيضا "فصولا نوعية".
أنَّى لوسائل التواصل الاجتماعي؛ وإن جمعت كافة مع ما يطبعها من سطحية وفهلوة وإثارة وسرعة... وما إلى ذلك، أن تصل إلى هذا الجانب فقط مما يحقق الأدب، ناهيك عن باقي الجوانب التي لن يتسع المجال لذكرها.
حتى لا نتوه في العموميات، نأخذ من الرواية مثلا، التي يضعها الفيلسوف الألماني هيجل في مقابل الملحمة، فالأخيرة من وجهة نظره "الصورة التعبيرية عن الوعي في المجتمع القديم، بينما الرواية هي الصورة التعبيرية الملائمة لحالة الوعي في المجتمع الحديث". هنا نتساءل أي وسائل التواصل الاجتماعي يمكنها أن تتجرأ اليوم على منافسة الرواية في هذا الدور ولو جزئيا؟
ربما يعترض البعض قائلين بأن الأديب الإسباني ميخائيل دي ثربانتيس حين كان يكتب روايته الشهيرة "دون كيشوت" في مطلع القرن الـ 17، لم يكن يعلم أنه بذلك يؤسس لنمط جديد في السرد الأدبي، يقوم على سرد الواقع اليومي المعاش، وأن هذا النمط الجديد الذي ابتكره بشكل عفوي، سيصبح بعد ذلك علامة فارقة تدل على نقلة نوعية في الذوق والوعي. وهو ما قد نكون بصدده الآن مع وسائل التواصل الاجتماعي هذه، التي نظل نكيل لها النقد كل يوم دون أن تمنح أي فرصة لاختبار ما تطرحه كبدائل.
واضح أن المواجهة تتجدد، وبشكل أقوى هذه المرة، بين الأدب والسوشيال ميديا على غرار ما كان عليه الأمر في وقت لاحق مع التلفاز وقبل مع المذياع، حين استعد كثيرون لإقامة حفلات تأبين في حق عديد من مصنفات مجال الأدب، لكن ذلك لم يحدث. وإنما على النقيض، تسللت المنتوجات الأدبية خلسة إلى تلك الوسائل، لتحتل مساحة تُروج فيها لنفسها في برامج أدبية وثقافية وفكرية، ما زاد من إشعاعها وانتشارها. إنها القدرة على التكيف باستمرار ما يجعل المنتجات الأدبية على مستوى أي مواجهة حاضرا ومستقبلا.