عجوز شمطاء
نجلس خلف الشاشات الكبيرة والصغيرة؛ التلفزيون أو الأجهزة اللوحية أو الجوال ونمطر هذا قدحا، وذاك ذما دون مراعاة لمشاعر أو أحاسيس. نرمي الكلام على عواهنه غير مدركين فداحته وخطورته. نعتقد أن هذا الشخص جماد لا تجرحه الحروف ولا تمزقه الكلمات، ولا نتوقف عند ذلك فحسب، بل نتطوع ونتدخل في هيئته، ونقترح عليه - بلا استئذان - أن يغير أسلوبه وشخصيته حتى ملابسه؛ لأنها لم ترق لنا.
لقد استوقفني فيديو قصير ترجمه شقيقي فيصل ونشره على حسابه في “تويتر” لطاهية شهيرة اسمها، راشيل فارنسورث، علق أحدهم على مدونتها قائلا: “تبدين في عمر السبعين بسبب شعرك الرمادي. من الأجدر أن تصبغي شعرك عندما تظهرين على التلفزيون حتى لا تكون هيئتك أشبه بسيدة عجوز شمطاء. هذا مجرد اقتراح”.
وكان رد الطاهية عليه بليغا ومؤثرا. أشارت في ثناياه إلى أنها تبلغ من العمر 31 عاما، وأنها وزوجها قررا أن يكبرا ويشيبا معا. فهي مصابة بمرض مناعي نادر اسمه “مرض أديسون”، وهذا يعني أنها - في الغالب - لن تصل إلى سن السبعين أبدا؛ فالمصابون بهذا المرض يتوفون قبل بلوغهم السبعين عادة. تقول: “أي علامة تقدم في السن ليست سوى علامة بأنني ما زلت على قيد الحياة. فالكثير من الناس لم يحظوا بنعمة التقدم في السن، وأنا سأكون أحدهم”. قطعا من غرز هذا التعليق في مدونتها لا يعلم بمعاناة الطاهية راشيل.
ينبغي أن يكون هذا التعليق درسا لنا أجمعين بأن نحذر قبل أن تشعل حروفنا أو ألسنتنا أي حرائق في صدور الآخرين. فسلوكيات الآخرين ملكهم ما دامت لا تمسنا، ويجب ألا نتدخل فيها، فربما وراءها ما وراءها ونحن لا نعلم.
أذكر أنني زاملت في دراستي زميلا يرتدي حذاء غريبا كان مصدرا لتهكم البعض. وتمادى أحد الطلاب فانتهز فرصة خلع الزميل حذاءه قبل دخوله المسجد وكتب عليه: “بالمناسبة، حذاؤك مضحك”. في اليوم التالي، مر مدير المدرسة على كل الفصول بحثا عن الجاني وقال: “ربما لا تعلمون أن زميلكم يرتدي هذا الحذاء الطبي بسبب إعاقة طفيفة في قدمه. عيب عليكم السخرية منه. من قام بهذا الفعل سيتعرض للعقاب”.
اعتذر الطالب من زميلنا في طابور الصباح على رؤوس الأشهاد، لكن الموقف ما زال راسخا في ذاكرتي رغم مرور سنوات عديدة عليه؛ فأصبحت أحاول قدر المستطاع أن أجد تبريرا لأي سلوك وتصرف وذائقة وزي لا يروق لي، وأعمل جاهدا على الانصراف عن التعليق عليه قدر المستطاع.
وكل يوم أؤمن أكثر بأن كثيرا ممن نسخر منهم يمتلئ جوفهم بكثير من الألم.
فأكثر الناس حزنا أبرعهم ابتسامة، وأكثر الناس معاناة أكثرهم حكمة، وأعمق الناس أكثرهم بساطة.