ما القوة التي نمتلك؟
يموج العالم بالأحداث المتسارعة ولا يكاد يمر يوم بل ساعة أو دقيقة إلا وحدث يقع هنا أو هناك. أحداث تهز العالم وتكون محل اهتمام الإعلام والساسة والاقتصاديين، نظرا لعلاقتهم الوظيفية بالحدث، أو لتأثير الحدث في مصالحهم. حروب ومذابح تقع على شعوب بريئة ليس لها ذنب إلا أن نصيبها من القوة والتأثير في الآخرين محدود، ولهذا السبب نجد أن لا أحد يهتم بهم ألبتة، إذ لا إعلام يركز على مآسيهم، ولا هيئة أمم تنعقد لمناقشة وضعهم، ولا إخوة مسلمون تتحرك مشاعر الأخوة نحوهم، مما يشعر معه الفرد بأن أخوة الجسد الواحد قد اختفت ولم يعد لها وجود، ولعل أبرز مثال على ذلك المذابح اليومية التي يتعرض لها الروهينجا منذ سنوات على أيدي عسكر حكومة ميانمار ومتعصبي البوذية، ومثل هذا يحدث لمسلمي إفريقيا الوسطى على أيدي متعصبي المسيحيين الذين يجدون الدعم والمؤازرة من الغرب، وبالأخص من فرنسا ومن يساندها.
في المقابل نجد أن أحداثا بسيطة جدا تقع لفرد أو مجموعة بشرية ذات عرق، أو دين، أو مذهب يهتز لها العالم ويستنفر الإعلام وتعقد اجتماعات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ليتحول الحدث البسيط، بفعل التضخيم الإعلامي والسياسي إلى قضية دولية يهتم بها الجميع القريب والبعيد، فلو تعرض جندي صهيوني لإطلاق نار من فلسطيني يدافع عن عرضه ونفسه وأرضه، لتحول هذا الحدث إلى قضية تناقش وتسلط عليها الأضواء حتى يشغل العالم بأسره، وكأنه لم يحدث في التاريخ إلا هذا الحدث. ولعل من الأمثلة على هذا التجارب الصاروخية لكوريا الشمالية، التي تعد حقا من حقوقها مثل أي بلد آخر، إذ يركز الإعلام والساسة هذه الأيام على هذا الموضوع ويصورونه أنه الخطر الذي يهدد أمن وسلامة العالم بأسره، في حين أنه لم يقتل بسبب هذا التجارب ولا فرد واحد، وفي خضم التهييج الإعلامي الهائل تنسى مصادر الخطر الحقيقية، التي تمارس القتل على مدار الساعة كما تفعل روسيا في سورية، وكما فعلت وتفعل أمريكا في أفغانستان والعراق وسورية.
خلال الحرب العالمية الثانية أبيد ما يقارب 70 مليون إنسان بفعل آلة الحرب الغربية ونسي العالم هذه الملايين من البشر بل لم يبيكهم إلا أهلهم، لكن جنسا بشريا غرس في ذاكرة العالم أجمع وأصبح مناسبة تُحيا ذكراها سنويا ويُحزن من أجلها، وسنت القوانين التي تحرم التشكيك في الحادثة، إنها الإبادة النازية لليهود أو كما تسمى "هولوكوست". هذا الحدث بغض النظر عن صحته وخطئه إلا أنه يحرم التشكيك فيه وفي الأعداد التي يقال إنها بلغت ستة ملايين، بل إن المستفيدين من الحدث سعوا عبر المؤسسات الرسمية في الغرب إلى تحريم البحث العلمي في الحدث، يحدث هذا الأمر في عالم غربي يدعي الموضوعية، وجامعاته ومعاهده حققت نجاحات ضخمة في كل المجالات والميادين، إلا أن موضوع المذبحة النازية يفترض الأخذ به كحقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش أو التشكيك، ومن يفعل ذلك يحاكم ويعاقبه القانون، كما حدث مع روجيه جارودي.
لماذا هذا العور في التعامل مع الأحداث والكيل بمكيالين؟! هل يتم هذا بناء على نظرية التميز العرقي في الدم والذكاء والخصائص الأخرى، كما كان يدعي هتلر بتميز العرق الألماني؟ أو كما يدعي اليهود، حتى أن آيزنك وجنسن يريان أن الذكاء موروث؛ أي أن العرق له دور في ارتفاع ذكاء الفرد، أو انخفاضه، أم أن القوة، وتملُّك أدواتها الناعمة والخشنة يفرض على الآخرين قبول ما يفرضه ويريده من يمتلكها!
منذ القدم، وعبر سيرة الأمم نجد أن امتلاك القوة يمثل القاسم المشترك في القدرة على بسط النفوذ، سواء عندما كانت أدوات القوة الخيل والسيف والرمح، أو بعدما أصبحت المدافع والصواريخ والقنابل، لكن يجب ألا ننسى أن الإنسان ابتكر عناصر قوة أخرى، فالقوة الناعمة التي تستهدف الفكر والقيم والمشاعر والاتجاهات أصبحت أداة تأثير شديد في تحريك الشعوب، ودفعها إلى التغيير في واقع حياتها، ولعل الكفاح السلمي الذي انتهجه مانديلا مع دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أو ما فعله غاندي مع بريطانيا المحتلة لبلاده من الأمثلة في العصر الحديث. الإعلام خاصة بصورته الحديثة، الرسمي، وغير الرسمي يمثل قوة لا يستهان بها في مخاطبة الشعوب وتحريك غرائزها ومشاعرها، والتغيير في أفكارها وعقائدها واتجاهاتها، حتى أن المرء ليعجب من التحولات العميقة والعنيفة التي تحدث للبعض في معتقداتهم واتجاهاتهم نحو أوطانهم وثوابتها التي نموا وتربوا عليها.
توافر القوة المادية الخشنة، أو الناعمة مع توافر عقيدة صلبة يجتمع عليها أبناء الوطن الواحد، مع منهج فكري سليم، وخريطة عمل منظمة، تعتمد على أسس علمية، مع إدارة حكيمة، ومؤسسات رقابية لديها حصانة دستورية وقانونية، مع نظام محاسبة لا يستثني أحدا، تشكل ركائز مهمة في الدولة المعاصرة. إن الاستبصار والتأمل في الواقع يكشف لنا ويحدد ما نمتلك من عناصر القوة، وما لا نمتلك.