عبدالكريم غلاب .. يترك «المعلم علي» وحيدا

عبدالكريم غلاب .. يترك «المعلم علي» وحيدا

غادرنا صباح يوم الإثنين عبدالكريم غلاب عن عمر يناهز مائة سنة إلا اثنتين، بعدما ترك لنا إرثا أدبيا وفكريا تنوء مراكز ومؤسسات بحثية عن النهوض به، وقد لا نبالغ حين القول إن الراحل يعد واحدا من زمرة الكتاب المغاربة الأكثر تأليفا وإصدارا للكتب؛ إن لم يكن أغزرهم إطلاقا.
فحتى بعد فقدانه البصر واصل الإبداع والكتابة، حيث ألف في العام الجاري خمسة كتب، لم تطرح أغلبها حتى اللحظة في الأسواق المغربية والعربية، وهي: "شخصية المغرب نموذجا"، "الإسلام من أعمال القرآن" "يصدر الشهر المقبل"، "سعادة الباشا" و"شهرزاد في ليلتها الثانية بعد الألف" "مجموعتان قصصيتان"، "أمحمد بوستة الدبلوماسي الحكيم".
جمع الرجل في تجربته الحياتية بين العمل على ثلاث جبهات؛ جبهة الأدب والثقافة والفكر، وجبهة الصحافة والإعلام، وجبهة السياسة والنضال. واستطاع صاحب "المعلم علي" أن يتميز في كل واحدة منها، ويسجل بصمته النوعية فيها، في وقت يعجز فيه غيره عن التميز في واحدة فقط.
في الأولى، أثرى غلاب الخزانة المغربية والعربية بأكثر من 80 مؤلفا منذ انطلاق مسيرته الإبداعية قبل سبعة عقود "1947"؛ تراوح ما بين الرواية والقصة والأدب والرحلة والفكر الإسلامي والسياسة والفقه الدستوري وتاريخ المغرب، وحاز جائزة المغرب في الآداب ثلاث مرات، كانت الأولى عن روايته "دفنا الماضي" سنة 1968، والثانية عن روايته "المعلم علي" سنة 1974، والأخيرة - بعد عقدين من الزمن - عن رواية " شروخ في المرايا" "1994".
وقد أدرجت منظمة الثقافة العربية روايته "المعلم علي" ضمن قائمة الأفضل 105 روايات عربية، نشرت عبر التاريخ. كما قرر عديد من الدول العربية برمجة تدريسها في أسلاك المدارس الثانوية.
كانت إبداعاته حاضرة في السنوات الأخيرة بواسطة ترجمة بعض أعماله الروائية إلى لغات غير العربية، منها: الفرنسية والإسبانية والكتالانية والأردية والإيطالية والإنجليزية. كما سجل حضورا نوعيا على مستوى التعاطي البحثي والأكاديمي مع بعض أعماله في أبحاث جامعية، على شكل رسائل أو دكتوراه تجاوز عددها 50.
بعيدا عن عوالم الساحة الأدبية، لا يمكن القفز عن اسم عبدالكريم غلاب عند الحديث عن الصحافة المغربية والعربية أيضا، فمساره جزء لا يتجزأ من مسيرة جريدة "العلم"؛ لسان حزب الاستقلال، إحدى أعرق اليوميات في الصحافة المغربية. وقبلها شغل عام 1949 منصب رئيس تحرير مجلة "رسالة المغرب" الأسبوعية الثقافية التي أوقفها المستعمر ثلاث سنوات بعد ذلك. وكانت مساهمته نوعية في مجلة "الرسالة" القاهرية.
اشتهر بعموده اليومي "مع الشعب" في جريدة العلم، التي بقي على رأس إدارتها منذ عام 1960 حتى شهر يوليو من عام 2004، حين قرر الأمين العام لحزب الاستقلال آنذاك عباس الفاسي منع عموده، فقرر بدوره الانسحاب من الحياة الصحفية والسياسية منذ ذاك الحين.
في وقت كانت القاعدة أن يشد الطلبة المغاربة الرحال نحو باريس لاستكمال دراساتهم؛ انبهارا وتأثرا بقوة المستعمر الفرنسي، عكس غلاب الآية فاتجه نحو الشرق، وتحديدا العاصمة المصرية القاهرة لاستكمال دراساته بعدما تخرج من كلية القرويين في المغرب.
برز اسمه سريعا على الصعيد العربي، فكان ضمن الأعضاء المؤسسين لجمعية الطلبة العرب من أجل بث الوعي القومي العربي سنة 1942، إلى جانب طلاب من سورية والعراق ومصر وفلسطين والسودان. وشارك في مؤتمر الثقافة العربية الأول الذي عقد تحت إشراف اللجنة الثقافية للجامعة العربية، في بيت ميري في لبنان صيف عام 1948.
عربيا دائما كانت للرجل مسؤوليات عدة في اتحاد الصحفيين العرب، منها نائب أمين عام الاتحاد "1965-1983"، وشغل أيضا منصب نائب رئيس اتحاد الأدباء العرب في الفترة ما بين 1968-1981، وعضوا عربيا بارزا في مؤسسة بيت الحكمة في الجمهورية التونسية.
مغربيا انتخب أمينا عاما للنقابة الوطنية للصحافة المغربية لدى إنشائها سنة 1961، وجدد انتخابه في كل المؤتمرات إلى سنة 1983. وأسهم في تأسيس اتحاد كتاب المغرب، وانتخب عضوا في لجنة الكتابة المنبثقة عن المؤتمر الأول 1961، ثم رئيسا للاتحاد في الفترة ما بين 1968 و1976. وكان عضوا في أكاديمية المملكة المغربية منذ تأسيسها سنة 1980. كما تولى رئاسة اللجنة الثقافية لمؤسسة علال الفاسي في المغرب.
على الواجهة السياسية كان غلاب مناضلا في صفوف حزب الاستقلال وخاض معركة التحرير ضد الاستعمار في صفوف هذا الحزب التاريخي العريق. دخل البرلمان في ولايتين؛ إحداهما نهاية السبعينات والثانية في التسعينات، كما عمل في السلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية بعد حصول المغرب على الاستقلال. وأسندت إليه وزارة في الولاية الحكومية لفترة 1981-1985.
بقي حريصا على منهجه الخاص حتى في الجبهة السياسية، وفي غمرة الصراع والمعارك التي لا تعترف بأي منطق ولا قواعد، خط الرجل مسارا نوعيا حافظ فيه على مبادئه وقناعاته حتى صار واحدا من رموز الحزب، ممن يعرفون بـ "حكماء حزب الاستقلال".
هذا هو عبدالكريم غلاب، الكاتب والروائي والصحافي والمناضل السياسي والمثقف العضوي، الذي جمع طوال حياته بين التنظير أحيانا، والممارسة حينا. بين الاشتغال في الميدان مرة، وتسخير قلمه للدفع بعجلة مجتمع ظل ينشد تغييره نحو الأفضل مرات.
إنه غلاب، الذي يقدم لنا درسا في المثابرة والصبر، إذ لم تخب عزيمته وقد بلغ من الكبر عتيا، لدرجة تخال نفسك وأن تستمع إليه بعد كل هذا المسار أمام شاب يافع في مقتبل العمر. ورسالة في الوفاء، إذ لم تأخذ منه المهام الوزارية والمسؤوليات السياسية والحزبية حبه الأبدي للأدب والثقافة والفكر.

الأكثر قراءة