تفتيت الثقافة بدلا من مواجهتها
يعرف البعض الثقافة بأنها ذلك الكل المركب والمعقد الذي يشمل المعارف، والمعتقدات، والأخلاقيات، والتشريعات، والعادات، والتقاليد، والفن وغيرها من الخصائص التي يتعلمها الفرد ويكتسبها من البيئة المحيطة. ومهما تعددت تعاريف الثقافة فإننا نجد أنها تحتوى على عدة عوامل يطلق عليها العوامل الثقافية وهي: العادات، والقيم، والتقاليد، والدين، واللغة. وهذه العوامل مجتمعة تعبر عن مكونات الثقافة فاختلاف عنصر واحد من هذه العناصر يؤدى إلى اختلاف ثقافة عن ثقافة أخرى.
ولا يهمنا هنا تعريف الثقافة بقدر ما يهمنا كيف نتعرف على مكوناتها؟ وكيف نوجهها ولا نواجهها؟ فالثقافات يمكن توجيهها بل تفتيتها أيضا، ولكن تصعب مواجهتها لأنها جزء من البيئة الكلية التي يصعب تغييرها والتي يطلق عليها أحيانا (القوى) كالقوى الطبيعية والقوى الاقتصادية، فمثل هذه العوامل لا يمكن مواجهتها أو تغييرها بل التكيف معها بخلاف العناصر الأخرى التي يمكن مقاومتها أو تغييرها وفي بعض الأحيان مواجهتها. فلو أخذنا الشركات في مجال الأعمال يصعب عليها تغيير الثقافات حتى الثقافة التي تعيش فيها ولكن من الممكن مواجهة ما يطلق عليه العناصر كالمنافسين، والأسواق، والموردين، وغيرهم.
ذكرنا من قبل أن البيئة بشكل عام تتكون من عناصر وقوى وقد تم تصنيف الثقافة كقوة ــــ وليست عنصرا ـــ والقوة تعني أن على المجتمعات والاقتصادات والدول والمؤسسات أيضا أن تتكيف مع الثقافات وتتعامل معها كما تتعامل مع القوى الطبيعية والقوى الاقتصادية. ينادي علماء الاجتماع والتسويق وكل علم له علاقة بالثقافات بعدم مواجهتها أو محاولة تغييرها عنوة بل تقبلها والتكيف معها. ولكن ليس معنى هذا أن تستمر في التكيف بل يمكن تغييرها وتفتيتها أيضا، ولكن هذا يستغرق وقتا طويلا قد يستمر بعضها لعدة سنوات. فقد بين لنا تاريخ الأعمال كيف أن كثيرا من الشركات والمؤسسات قد أفلست وبعض الدول قد انهارت وأصبحت أثرا بعد عين بسبب تصديها لثقافة ما أو أحد عواملها الثقافية.
إلا أن بعض قطاعات الأعمال الرائدة أدركت مثل هذا الأمر مبكرا خصوصا تلك التي تقدم منتجات وخدمات تمس عادات وأعراف وقيم الشعوب كالشركات السياحية وشركات الترفيه والوجبات السريعة. فهذه الشركات عندما تهم بغزو الأسواق فإن أول ما تبدأ به التعرف على عادات البلاد وثقافة الناس. فعلى سبيل المثال: شركة ماكدونالدز للوجبات السريعة تقدم لحم الخنزير كوجبة رئيسة في أمريكا ودول أوروبا والشرق الأقصى، لكنها تتحرج أن يكون ضمن أصنافها في البلاد العربية. لماذا لم تفرض قناعاتها على هذه الدول؟ لأنها تعلم أن هناك ثورة مجتمعية ستتكون ضدها وتطردها خارج حدودها أن هي مست أهم مكونات الثقافة ألا وهو الدين.
ولو قدر لشركة والت ديزني للترفيه أن تستثمر في بلاد المسلمين فهل تتوقع أن تتبع أسلوبها نفسه في باريس وتنزانيا؟ لا أظن داهية كـ (والت ديزني) يرتكب حماقة كهذه، لأنه يعلم أن العرب والمسلمين لا يتقبلون هذه العادات والمنتجات وإن تآلف البعض معها خارج الحدود فالعقل الجمعي في الداخل لن يقبل أن تفرض عليهم في بلادهم خصوصا أنهم يعلمون أنها تنافي أهم عامل من عوامل التركيبة الثقافية ألا وهو الدين. إذا مثل هذه الشركات العملاقة لن تتجرأ وتمس ولو جزءا بسيطا من أجزاء الثقافة، وإن فعلت فنرى أنها تقدم الاعتذار فورا. بطبيعة الحال بعض الشركات تحاول أن تستفز الثقافات وتتخذ مثل هذا كحركة دعائية. وهذا أسلوب ترويجي أكثر منه أسلوب استفزازي.
إن مراعاة مثل هذه الأبجديات التسويقية، والحذر من السير عكس التيار لا تؤدي فقط إلى مواجهة الثقافة بل ستؤخذ على أنها فرض قناعات وهذا تصرف لا تقبله المجتمعات. فالمصارف التقليدية على سبيل المثال في بعض الدول أدركت بعد عقود من التخبط أن الاستمرار في تقديم القروض المجحفة في فوائدها في البلاد الإسلامية تضاد معتقدات المتعاملين ولن يكتب لها النجاح فكيفت معاملاتها المالية رغم أنفها بما يوافق أحكام الشريعة الإسلامية.
كما غاب هذا الدرس عن بعض الشركات التي طرحت جزءا من رأسمالها للاكتتاب العام، فأظهرت نفسها كقوة اقتصادية كبرى ومركز مالي ضخم، وأغفلت ثقافة البلد ورغبات المساهمين فكان الفشل حليفها. فعلى شركات الخدمات أن تكف عن العبث وتصمم برامج تليق بعقلية وطموح السواد الأعظم من الناس ثم لتترقب النتائج، وإن عجزت فما العيب في أن تطلب العون من أهل التجربة وبيوت الخبرة في بعض الدول التي فطنت إلى ذلك مثل ماليزيا والإمارات. هاتان الدولتان تفعلان الكثير ضد الثقافات ولكنهما لم تواجهها بالنقد والرفض والتشهير لأنهما تعلمتا كيف تكفان عن المواجهة ثم تتكيفان مع الثقافات بعدها تفتتها من الداخل.