بسبب «غزو البلهاء» .. الفن والأدب يفقدان بريقهما

بسبب «غزو البلهاء» .. الفن والأدب يفقدان بريقهما
بسبب «غزو البلهاء» .. الفن والأدب يفقدان بريقهما

يكتشف المتتبع للواقع الثقافي العربي أن قضية الأدب الرديء ليست مجرد مشكلة فنية أو أدبية، لكنها قضية اجتماعية في عمقها؛ فالأدب الرائج بين ظهرانينا اليوم؛ في مجمله، يقود إلى مزيد من الركود والاستسهال، ويحول الثقافة إلى محض استهلاك، وتجارة مربحة تخضع لمنطق اقتصاد السوق. في وقت كان فيه الأدب الحقيقي يعمل على تحفيز العقول، وحشد الهمم قصد استنهاض الأمم والشعوب. وطرح القضايا ومناقشة المسكوت عنه في المجتمع، والغوص في نفس الإنسان واكتشاف كينونتها وسبر أغوارها.
كان هذا في زمن ذهبي ولّى، فيما الوضع اليوم يُؤذن بخراب ثقافي امتد ليُصيب كل واحد منا في ذائقته. فقد تربّتْ ذائقتنا بشكل متعاقب لأجيال وأجيال على الأصالة والرقي والاستنارة؛ مع أسماء خلدت في الفن والأدب والفكر. قبل أن يندحر هذا الحس اليوم، لدرجة أن عضوا في لجنة تحكيم البوكر علق قائلا: "صُدمنا من العدد الكبير للأعمال الهابطة، إلى درجة أنني كنت أقول لبعض رفاقي في اللجنة: كأستاذ جامعي لو كنت أمارس التعليم ومررت على هذه الروايات، سأعاقب المؤلفين والناشرين... يبقى العدد الأكبر من الروايات المرشحة هابطة حد الصدمة".
ما أكثر العوامل التي أسهمت في صناعة الأدب السخيف أو "الهابط" الذي يغزونا سيله الجارف، لعل أحدثها وسائل التواصل الاجتماعي التي علق عليها الفيلسوف الإيطالي، والناقد الأدبي والروائي، إمبرتو إيكو ساخرا بقوله: "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك... تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا في أي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا. أما الآن فلهم الحق في الكلام، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء".
وقبلها كان لشيوع بدعة "أدباء السيناريو" نصيب فيما يقع، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن مبيعات الروايات التي يتم الإعلان عن دخولها طور الإعداد السينمائي أو التلفزيوني تزداد أكثر من غيرها، بمجرد الإعلان عن ذلك؛ بصرف النظر عن قيمتها الفنية ومضمونها الفكري. فأضحت مغازلة السينما طريقا معبدا أمام كل روائي مبتدئ يتلمس طريقه نحو الشهرة والأضواء، حتى أضحى الأديب مثلا يكتب العمل الروائي والسيناريو نصب عينيه، بينما الحقيقة الفاقعة أن الرواية فن والسينما فن آخر تماما، وكلما استعصت الرواية على التحول إلى سيناريو كان هذا دليلا على أصالتها وتميزها الإبداعي.
أكذوبة "الكتب الأكثر مبيعا" من الخدع التي أسهمت بدورها في تكريس هذه الرداءة في واقعنا الثقافي العربي. تعود أصولها إلى أحد مديري دار النشر في الغرب، حين عمد الرجل لوضع لافتة بارزة في ركن بمحل بيع الكتب، تحمل عنوان "الكتب الأكثر مبيعا". ورتب تحتها أعمالا أدبية طالها النسيان، حتى ضج من الحيز المكاني الذي تشغله في المستودعات. سريعا ما أتت الخطة بمفعول سحري، إذ أدت إلى اختفاء الكتب المعروضة خلال أسابيع من الرفوف والمخازن التي تملأها لسنوات في السابق دون أن يهتم بها أحد.
أضف إلى ذلك ظاهرة "توقيع الكتب" التي كانت في الأصل فكرة نبيلة ووسيلة محمودة، تفسح المجال للاحتفاء بالإبداع والمبدعين. وتبقى حفلات التوقيع أمرا حديثا نسبيا، يعود انتشاره إلى دور النشر الكبرى في النصف الثاني من القرن الماضي. غير أن نبل الفكرة لم يحل دون تعرضها للتحريف؛ والاستغلال أيضا، من قبل التجار والناشرين، فحولوه إلى فخ اجتماعي يتم من خلاله إطلاق الرداءة وانعدام المعايير الإبداعية في فضاء الثقافة العربية.
ضمن قائمة العوامل التي أفضت بنا إلى هذا الوضع الثقافي المتردي نجد مقولة "ما يطلبه الجمهور"، التي تنساق وراء الرائج في الأسواق بعيدا كل البعد عن أي إبداع أو ذوق. وبلغ الأمر حد إقدام بعض المؤلفين الكتاب برفع الدعاوى بأنفسهم؛ قصد إثارة الضجة ولفت الانتباه، ما يضمن نتائج أسرع، ويسهل وصول المعلومات إلى الجمهور. على هذا الأساس تباع أكثر تلك الروايات التي يتمكن ناشرها من عمل دعاية واسعة النطاق، وعبر كل السبل من تلفزيون وصحف وشبكة إنترنت وحفلات التوقيع، وتحميس النقاد المعروفين لتناولها بالمقالات التي تنشر في المطبوعات ذائعة الصيت.
"هناك فرق شاسع بين من يصنع الحدث ومن يصنعه الحدث! الحالة الأخيرة اليوم أكثر تفشيا!"، فالمتتبع للإنتاج الرديء الذي يملأ الساحة الثقافية اليوم، يرى أنه يفتقر إلى أدنى أدوات الكتابة وأقل شروط الإبداع، لأنه في عمقه لا يتوّجه إلى العملية الإبداعية من داخلها. وإنما إلى أشكال خارجها، تسعى إلى الحرص على الاستجابة لرغبات خاصة وواهية لا نصيّة، بعيدة كل البعد عن المضامين القيمية الإبداعية الجمالية، ولا ينفتح خارج المدلولات المباشرة، ولا يأخذ بعين الاعتبار البعد الزمني.
إن ما نعيش على وقعه في عصر الاستهلاك يتجه نحو إفقاد كل الفنون الأدبية والفنية بريقها، علما أن هذه الفنون بمثابة الحلم والمبعث على الأمل في الحياة. إن الرداءة التي تغمرها هي الوسيلة نحو تسليع الإنسان، وإفقاده قيمته الحقيقية، وتحويله إلى أداة لصراع سيكون هو ضحيته.

الأكثر قراءة