نهاية النظرية .. الأزمات المالية وفشل علم الاقتصاد «3»

في الجزء الثالث يحاول الكتاب تفكيك النظرية الكلاسيكية الجديدة ورسم معالم النموذج المقترح. يصف قيري بكر من جامعة شيكاكو علم الاقتصاد بأنه الطريقة الاقتصادية التي تقوم على مجمل افتراضات في تعظيم المصلحة وتوازن السوق والرغبات المستقرة حين توظف باستدامة وثبات حيث تشكل القلب النابض للاقتصاد. إذا تم تحدي هذه الافتراضات فإن الطريقة الاقتصادية تبدأ في التهاوي. يذكر الكاتب أن بكر لم يذكر افتراضا آخر مهما: نزعة الاقتصاد لوصف الكل وكأنه وحدة متماثلة، بينما التصرفات تتم عن طريق وحدات باستقلال واختلاف في سياق معين. منهجيا التركيز على الوحدات بعيدا عن التماثل يعيد الحسابات المعروفة بين الاقتصادين الجزئي والكلي إن لم يعد صياغتها جوهريا. انكشاف النظرية التقليدية لا يعني وجود البديل ولذلك يذكر الكاتب أننا نعيش في مرحلة انتقالية في علم الاقتصاد. وصف أحدهم علم الاقتصاد بأنه مجموعة مسلمات متناسقة ومقبولة ولكنها لا تعمل في الواقع وقد أصبحت أشبه بمنظومة دينية أكثر منها خريطة طريق عملية.
ما يرى أنه قلب النظام المقترح يقوم أساسا على التركيز على الوحدات كالأفراد والشركات في بيئة متغيرة وتخضع لخصائص النظام المعقد. يقول الفيزيائي فيمان إنه لن يعرف كيف يتعامل مع النظريات في الفيزياء لو بدأت إلكترونات بالتفكير وهذا ما يحدث في الاقتصاد، حيث الوحدات تفكر وتتفاعل وتغير البيئة. النموذج المقترح لا يبدأ بالمسلمات العامة ومكون من أربعة أجزاء، الأول الوحدات حيث الوحدات لا تعمل تماثليا كما في النموذج التقليدي، ولذلك كل فرد أو مصرف أو صندوق تحوط يختلف عن الآخر، الجزء الثاني البيئة وهذه تتشكل حسب تصرف الوحدات ولكن هناك ما يجمعها مثل تكلفة رأس المال للمصارف والأنظمة ولذلك على الوحدة فهم البيئة واليقين أنها ستغير فيها حسب تصرفاتها وتصرف الآخرين. الجزء الثالث طريقة العمل والتعلم والتفسير لما يحدث في البيئة، فكل وحدة تطور الاستراتيجية والخطة المناسبة لها. لا تبدأ الطريقة بالمسلمات المعروفة أو افتراض عقلانية تصرفات الوحدات، حيث إن هذه الوحدات ليست متخصصة في الرياضيات أو علم المنطق. الجزء الرابع، التفاعل الديناميكي بين الوحدات ودورها في تغيير البيئة، كما أن تغير البيئة يختلف من فترة إلى أخرى في خلاف مع المعادلات الرياضية التي تفترض أن كل الفترات متشابهة. النموذج المقترح لا يتفادى التعقيد فهو يعترف بأن النموذج محاولة للتعامل مع الأنظمة المعقدة.
الكم الهائل من المعلومات ودرجة الترابط والتفاعل الممكنة وعدم تماثل نمط العلاقة بين الوحدات تشكل السمة الرئيسة للنظام المعقد. التعامل مع نظام بهذه الخصائص يصبح أقرب إلى متابعة قصة تتغير فصولها وأبطالها ومكان وسلم زمانها كل مرة. نظام بهذا الشكل لا بد أن تحكمه تصرفات وتفاعلات "انعكاسية"، كما يصفها سورس. الانعكاسية نظام ديناميكي، حيث المشاركون يغيرون البيئة ويتغير تصرفهم حين تتغير هي. يرى سورس أن للانعكاسية شرطين الأول أن البشر خطاؤون وأحيانا يمارسون غباء واضحا والثاني دور القدرات الذهنية التي توظفها الوحدة للسيطرة على نفسها للكسب من خلال "التلاعب" ـــ المقصود هنا التلاعب الإيجابي في البحث عن الكسب ولكن كلما تكاثر الباحثون عن المكسب تحرك الهدف، إذ يقول سورس إن البشر ليسوا مجرد مراقبين ولكن مشاركون في تكوين النظام، الإشكالية العملية أنه كلما طورت الوحدة طريقة عمل مناسبة، ازداد التعقيد وبدأ يصطدم بمحدودية المعرفة ــــ حال النظام المعقد.
هناك أيضا درجات في تعقيد النظام. فهناك نظام ميكانيكي أجزاؤه معروفة ومقننة، وهناك درجة أعلى من التعقيد في نظام يسمح ببعض الاحتمالات، وهناك آخر ديناميكي ومن ثم انعكاسي كالأنظمة المالية كما ذكرنا أعلاه، وأخيرا هناك الاستراتيجي مثل الحرب وهذه أكثر الأنظمة تعقيدا. في العمود المقبل سأستعرض وصف الكتاب للنظام المالي ومحاولة الكاتب تطبيق نموذج الوحدات على النظام المالي، خاصة أثناء الأزمات المالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي