تنمر «المغردين» .. إفراط الظل وخيبة الواقع
ليس افتراضا ما نعيشه على شبكات التواصل ولا هو بالواقع. لكنه "واقع مفرط" Hyper reality بتعبير جان بودريار؛ إفراط في الوجود والأحاديث والتكرار. خليط من الواقع والخيال. شكل جديد من الثرثرة الشفهية المكتوبة صباحا ومساء. ولكن باستخدام أيقونات باردة، وأبجدية منهكة. فلا هو نال شرف الكتابة الرصينة، ولا هو استمر على منوال المشافهة الدافئة، صوتا وصورة.
وفي خضم هذه الأدوات الملتبسة تتشكل علاقات إنسانية تتفاوت في حدود لهفتها ودهشتها. وفي حدود
يأسها وفرحها. أدوات مصطنعة ووجوه أيقونية جامدة وعابرة ترسم ملامح جيل بأكمله. لتنمو بين جنبات هذه العوالم وفي ظلالها انتصاراته المُحتملة وخيالاته المفترضة. عاطفيا ومعرفيا وثقافيا.
فعلى سبيل المثال التواصلي لا الحصر، "تويتر" الذي نعرف ليس سوى رأس جبل جليد، قاعدته أوسع وأعمق مما نعرف بكثير. وما يظهر على "خط الوقت" ليس إلا وقتا مستقطعا، مقارنة بما يطبخ ويتداول بين مغرديه ومغرداته في "صناديقهم" الخاصة على مدار اليوم وعلى هامش هذا المتن الإلكتروني.
أحاديث وعلاقات جانبية تخبو وتنمو على الهامش. في غفلة من المتن أو بتواطؤ منه. استقواء بأعداد المتابعين من جهة، وبالإعجاب المعرفي من جهات أخرى. وكل ذلك بحثا عن الحب والتقدير وترميما لذوات أرهقها تجاهل الواقع الطبيعي وهشاشة الافتراض الإلكتروني، فلجأت لواقعها المفرط على شبكات التواصل. لتقدم كل ما تملك من رأسمالها الثقافي قربانا على مذبح الصيت التويتري.
والإفراط في الواقع يتبعه بالضرورة تنفيس مفرط يصل حدّ التنمر الذي سيعلنها صريحة: "لا يعجبني شيء" و"لا يهمني شيء". اسمي في الأغلب مستعار أو يكاد. وذاتي انفرط عقدها لتلتئم بهذه الجموع الغاضبة الهادرة، تقريعا ونقدا أو "جلدا" - كما يستلذ البعض بتسميته - بحثا عن انتصارات في الظل، نقاوم بها خيبات النور المتكررة.
ولعل المفارقة العاطفية اللافتة هنا أنه في "التقليد الرومانسي" المتهم بقيوده وأسواره المجتمعية العالية. كان بحثنا عن الشريك الملائم، هو في حقيقته بحث عن ذات "تكمل" ما ينقص ذواتنا لننأى سويا وبعيدا عما يكدر صفونا في تكامل ثابت ومتوازن.
أما في هذا الواقع الإلكتروني المابعد حداثي الذي من المفترض أن يعزز فردانيتنا. البحث يكون عن ذات أخرى "تعزز" ما فينا فقط. لنسقط سويا في نواة هذا المجموع الهادر. كإلكترون فقد طاقته ومداره، لتسقط بالضرورة فردانيته؛ قيمة وجوده وكيانه.
البحث عن الذات وتقديرها لا يكون بفقدانها أو بتعزيز أخرى والتنمر على ذوات أخرى. إنما يكون عن طريق تغذيتها بالتوازن والألفة، بعيدا عن أي اشتراطات مسبقة. فلا العلاقات المتواترة والمتجددة ستوجدها، ولا العزلة ستنهيها؛ ذواتنا أمانة و"الإفراط" خيانة.