الدبلوماسية .. تاريخ الدفاع عن المصالح وتسويقها
تعود جذور نشأة الدبلوماسية لزمن مفرط في القدم، فولادة اللفظة (دبلوماسية) كانت عند قدماء الإغريق، ويطلقونها على الرجل الكبير في السن؛ مع ما يعنيه ذلك من الكياسة والرزانة والتعقل. واستخدمت لاحقا في اللسان الفرنسي للإشارة إلى عمل المفاوض.
تاريخيا امتدت ممارسات النشاط الدبلوماسي عبر آلاف السنين، فأول أثر بشري باق يدل على ذلك هو خطاب نُقش على لوح حجري، يرجع إلى قرابة 2500 عام قبل الميلاد، حمله -على ما ترجح أغلب الروايات- مبعوث سافر ذهابا وإيابا لأكثر من 1200 ميل بين مملكتين متباعدتين. أما حقبة الدبلوماسية الحديثة، فقد انطلقت مع صلح وستفاليا الذي عُقد عام 1648، وبموجبه تم وضع حد لنزاع حرب الثلاثين عاما، وأُرسي مبدأ استقلال الدول، وحرية الاعتقاد والتسامح الديني في القارة الأوروبية.
جدير بالذكر أن أسباب إيفاد المبعوثين بين الحكام والأمراء والسلاطين على امتداد هذا التاريخ الطويل، تدور ما بين الحيلولة دون وقوع حرب، أو العمل على وقف العداء، أو السعي لإبرام المعاهدات، وأحيانا لمجرد استئناف العلاقات السلمية، وتعزيز التجارة بين الطرفين.
يظهر فعلا أن "الدبلوماسية فن" -كما يقال- من خلال مختلف التطورات التي لحقت هذا الفن، لتغدو على حالها اليوم، مع احتفاظها بمعان مختلفة بحسب الأشخاص والأزمنة. بدءا من تعريفها المنمّق لدى هارولد نيكلسون بأنها: "إدارة العلاقات بين الدول المستقلة عبر المفاوضات"، وصولا إلى أسوأ تعريفاتها؛ غير المنمقة طبعا، لدى وين كاتلين حين حددها بقوله: "فن انتقاء المعسول من الكلام إلى أن تجد حجارة تقذف بها".
ترتبط هذه الحرفة بشخص يسمى الدبلوماسي، يعمل من موقعه كمفاوض؛ بحسب الأكاديمي الأسترالي جوزيف إم سيراكوسا، على السعي الدائم للتوصل إلى اتفاق أو تفاهم أفضل نوعا ما من الحقائق التي كان سيسوغها موقفه الأساسي، ولا يفضي بأي حال لوضع أسوأ مما كان سيتطلبه موقفه الأساسي.
كان لهؤلاء في محطات تاريخية مختلفة دور كبير في تغيير مجرى أحداث كبرى، شكلوا بمواقفهم منعطفات فاصل في مسار التاريخ. إذ أمكن البعض منهم بفضل السياسات الدبلوماسية المحنكة أن يسمو بمكانة بلده عاليا، كما كان تهور ومغالاة البعض؛ وأحيانا حماقاته، سببا وراء الزج ببلده في متاهات خطيرة على الصعيد الدولي.
مما يذكره التاريخ أن تفوق الدبلوماسيين الأمريكيين إبان الثورة الأمريكية؛ إذ أجبرتهم واقعيتهم على التفكير والتصرف كما يحتم الموقف، وفقا لما تفرضه قواعد القوة، بعيدا عما تفرضه المبادئ والقيم الأخلاقية التي كانوا يعتنقونها؛ خصوصا أن هامش المناورة يزداد ضيقا عليه بسبب المتغيرات على الأرض؛ بسبب الصراع بين بريطانيا وفرنسا وإسبانيا.
ويذكر التاريخ كذلك أحد الأخطاء الشائعة التي تربط اندلاع الحرب العالمية بعملية اغتيال واحدة؛ على يد شاب صربي ينتمي إلى عصابة اليد السوداء لولي عهد النمسا فرانسيس فرديناند، وإنما يعود السبب الأساسي إلى دبلوماسية التحالف التي نشأت على مر سنوات طويلة، بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا من جهة، وبين فرنسا وروسيا من جهة أخرى. وقس على ذلك في دواعي اندلاع الحرب العالمية الثانية التي علق عنها هنري كسنجر بقوله: "بما أن الحرب العالمية الأولى لم يسر بها شيء وفقا للمخطط، كان من المحتم أن يكون السعي إلى السلام غير ذي جدوى إطلاقا مثلما كانت التوقعات التي ألقت الأمم بسببها نفسها إلى هذه التهلكة".
على الصعيد المؤسساتي بدأت تترسخ في وقت مبكر فكرة إنشاء السفارات والمفوضيات في جميع أنحاء أوروبا، ومع نهاية القرن التاسع عشر تبنى العالم بأسره الدبلوماسية على الطريقة الأوروبية لأنها أضحت نظاما دبلوماسيا مكتمل النمو. وتنسب إلى الكاردينال الفرنسي ريشيليو؛ صاحب المنهج الكلاسيكي في العلاقات الدولية، القائم على مبدأ الدولة المستقلة الذي تحركه المصالح القومية كهدف نهائي، فكرة تأسيس أول وزارة خارجية في العالم سنة 1626.
وهكذا أصبحت لدى الدول الكبرى سفارات في نظيرتها من الدول الكبرى، ومفوضيات في الدول الصغرى. فعلى سبيل المثال لم تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الأول من تأسيسها سوى على مفوضيات في الدول الأجنبية، وبالمثل لم تكن لدى حكومات هذه الدول في العاصمة واشنطن سوى مفوضيات. لكن بحلول عام 1893، أجاز الكونجريس الأمريكي ترقية عديد من المفوضيات إلى سفارات شريطة أن تتخذ الدول الأخرى الخطوة نفسها. ومن حينها والسفارات تحل محل المفوضيات، حتى عام 1966، حيث تحولت آخر مفوضيتين أمريكيتين في كل من بلغاريا والمجر إلى سفارات، ما يدل على الأهمية المتزايدة التي توليها الولايات المتحدة الأمريكية لسياستها الخارجية.
تقليديا اختصت الدبلوماسية بصيغتها التقليدية؛ من حيث النطاق في المقام الأول، بالانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم والعكس صحيح. بعبارة أخرى، كانت الدبلوماسية تعنى بأوجه التواصل في فترات الصراع وصناعة السلام. لكن متغيرات الفترة المعاصرة، فرضت اتساع نطاق النشاط الدبلوماسي مع ضغوط الحرب الباردة، وحديثا مع الحرب الدولية على الإرهاب؛ لتشمل تأسيس علاقة اتصال بين الحكومات والمواطنين، وهو ما يعرف على نطاق كبير باسم الدبلوماسية العامة، وقد صاغ هذا المصطلح الدبلوماسي الأمريكي إدموند جوليون عام 1960، معلنا بذلك تجاوز حدود الدبلوماسية التقليدية.
تولت اتفاقية هافانا لعام 1928 تنظيم "مهام المسؤولين الدبلوماسيين" في إطار الدبلوماسية التقليدية، ومن أبرز ما جاء فيها عدم تدخل هؤلاء في الشؤون الداخلية للدولة المضيفة، وأن تقتصر علاقاتهم معها على المعاملات الرسمية. وجاء مؤتمر فيينا لعام 1961 في المنحى نفسه، حيث تم فيه رسم الشكليات الدبلوماسية القانونية، والتأكيد على أن العلاقات الدبلوماسية لا تعترف إلا بتلك التي تسري على النطاق الدولي فقط.
بقي أن نشير ختاما إلى أن من السمات المميزة للعولمة في القرن الحادي والعشرين ازدياد تعقد العلاقات الدولية، وسرعة انتقال المعلومات حول العالم، ما يفتح سبلا جديدة لممارسة الأنشطة الدبلوماسية، ويساعد في الوقت نفسه على انضمام مشاركين جدد إليها.
لذا بات من الصعب غض الطرف عن السياسات الدبلوماسية التي تمارس على نطاق النظام الاقتصادي الدولي، بدءا من الأنشطة التي تمارسها الشركات المتعددة الجنسيات إلى تدخلات المنظمات الحكومية الدولية العاملة على مستوى العالم، ولا سيما منظمة التجارة العالمية؛ فلهذه المنظمات بدورها شبكات من العلاقات الدبلوماسية التي تعمل داخل الأنظمة التقليدية وخارجها. وينطبق الأمر نفسه على نطاق شاسع آخر من النشاط الدبلوماسي يتمثل في منظمات المجتمع المدني.