الريف المغربي .. عقلانية التنمية ضد أوهام الانفصال
تعيش منطقة الريف أقصى شمال المغرب على وقع التظاهر والاحتجاج السلميين لشهر الثامن على التوالي، وكان الحادثة المأساوية لمقتل بائع السمك محسن فكري؛ بمدينة الحسيمة شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، السبب وراء اندلاع هذه الاحتجاجات بعدما أحس الأهالي بانحياز نتائج التحقيق حول الحادثة. إذ بعد ستة أشهر من التحقيقات، أصدرت محكمة الاستئناف بالحسيمة أحكاما برأت بعض المتهمين وأدانت آخرين؛ أحكام متواضعة تراوحت ما بين خمسة وثمانية أشهر وغرامات مالية بسيطة.
لم يكد أبناء المنطقة يتجاوزون صدمة واقعة الطحن في حاوية للأزبال، حتى جاءتهم صدمة الأحكام القضائية المخففة التي صدرت، وكانت أقل بكثير من سقف ما كان منتظرا أو مطلوبا، أو مراهنا عليه لتخفيف الصدمة عن النفوس. وقد عد البعض ذلك النقطةَ التي أفاضت كأس الاحتقان، وحولته من احتقان مبطّن إلى احتجاجات واسعة بدأت عفوية في شوارع المدينة الكبرى وبعض القرى المجاورة، ثم أخذت لنفسها بالتدريج إطارا تنظيميا مهيكلا، ينطق باسمها ويتصدر صفوفها الأمامية ويعبر عن مطالبها. وبذلك صرنا وبسرعة أمام حراك تبنى أصحابه مطالب اقتصادية واجتماعية في منطقة لها تاريخ خاص مع مغرب الاستقلال، وقبل ذلك مع المستعمر الإسباني.
تتسم منطقة الريف بخصائص نوعية، شأنها شأن مناطق أخرى بوسط وجنوب البلاد (لسان محلي، انتماء قبلي/عرقي، تاريخ مشترك...)، تستدعي تعاملا خاصا من الدولة المركزية تجاهها؛ فالظاهر أن المغرب مهما بلغ في تحديث البنية العامة للدولة، سيجد نفسه مجبرا على الاعتراف بالطابع الخصوصي لبعض المناطق، مثل ما يقع حاليا في منطقة الصحراء التي يتجه نحو تمتيعها بالحكم الذاتي.
تاريخيا، لا يخفى على الجميع أن الحديث عن منطقة الريف يعيد للأذهان ذكريات اتسمت بالتمرد والمقاومة والهزيمة زمن الاستعمار، إلى جانب ذكريات من الاستعباد الاجتماعي والقهر والاضطهاد والبطالة والفقر في حقبة الاستقلال.
يحتفظ أهل الريف في الذاكرة الجماعية بجمهورية الريف التي تأسست في 18 أيلول (سبتمبر) 1921، ودامت ست سنوات؛ حيث انتفض الريفيون على الاحتلال الإسباني، وأعلنوا قيام الجمهورية الريفية، واختاروا أجدير عاصمة لها، وصكّوا عملة سمّوها الريفان، وألفوا نشيدا وطنيا. وتم تنصيب المقاوم والزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي أميرا على "جمهورية الريف" إلى أن حُلت في عام 1926 بعد هجوم فرنسي – إسباني واسع النطاق، استخدمت فيه الغازات السامة. ويعتقد أن آثارها لا تزال موجودة إلى اليوم، إذ تسجل المنطقة أعلى معدلات الإصابة بالسرطان في المغرب.
جاءت بعدها "انتفاضة الريف" أو "تمرد الريف"؛ بحسب زاوية النظر للأحداث، التي عرفتها المنطقة؛ نهاية عام 1958 وبداية 1959. وكانت بمنزلة رد فعل على تجاهل الوثيقة الريفية التي تضمنت 18 مطلبا، كان قد قدمها وفد؛ يتضمن ثلاثة زعماء من الريف، إلى القصر الملكي بالرباط بتاريخ 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1958. واستمرت عدة أشهر قبل أن يتولى الراحل الحسن الثاني وليا للعهد إخماد هذه الانتفاضة، بعد محاصرة المنطقة عسكريا ومطاردة الثوار في الجبال.
خلفت هذه الواقعة جرحا غائرا في الذاكرة الجماعية للمنطقة في علاقتها مع السلطة الحاكمة، وفق ما يحكي المؤرخ والأنثروبولوجي الأمريكي دافيد مونتكمري هارت (David M Hart) في كتابه "أيت ورياغل: قبيلة من الريف المغربي".
حرص محمد السادس منذ توليه مقاليد الحكم على تجاوز مخلفات هذا التاريخ الأسود من خلال الزيارات المتكررة للمنطقة. واختيار المنطقة لإلقاء خطاب أجدير بتاريخ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2001، الذي أكد فيه أن الأمازيغية تشكل مكونا أساسيا من مكونات الثقافة المغربية، معتبرا أن النهوض بها مسؤولية وطنية. معتبرا في ذات الوقت أن النهوض بالثقافة واللغة الأمازيغيتين مسؤولية جماعية. داعيا إلى تركيز الجهود قصد تنمية اقتصادية مستدامة في الأوساط الناطقة بالأمازيغية، بغية النهوض بهذه اللغة.
لم تواكب هذا الحرص منجزات ملموسة على أرض الواقع، قصد انتشال المنطقة من ويلات الفقر والتهميش والمعاناة اليومية مع الحاجيات الاجتماعية الضرورية العيش (تعليم، صحة، طرق...)، وهو ما أدركه أبناء الريف جيدا ما دفعهم للاحتجاج أملا في إسماع صوتهم وكشف واقع عيشهم المرير.
تحول لم تستوعبه الحكومة جيدا، حين سارعت الأحزاب المكونة لأغلبيتها إلى الإدانة والتخوين والاتهام بالعمالة للخارج والرغبة في الانفصال، لواحد من أطول الاحتجاجات الشعبية بالمغرب المعاصر، قبل الاستدراك والتصحيح والإقرار بمشروعية مطالب المحتجين.
في وقت اعترف فيه الشعب المغربي منذ اليوم الأول بمشروعية تلك الاحتجاجات والمطالب، من خلال الوقفات التضامنية مع الريف التي عرفتها أغلب المدن المغربية، وبعض العواصم في الدول الأوروبية، ناهيك عن الوقفة الكبرى لمساندة حراك الريف بالعاصمة الرباط يوم الأحد 11 حزيران (يونيو) الماضي.
إن ما يجري في منطقة الريف جرس إنذار مبكر ينبه الدولة المغربية إلى ضرورة مراجعة النموذج التنموي المعمول به طوال سنوات العهد الجديد، ويدعوها إلى إعادة النظر في مخرجات هذا النموذج من حيث الأثر الاجتماعي والاقتصادي له على الساكنة، ليس فقط في منطقة الريف، وإنما في عموم مناطق البلاد.
لذا تبدو الحاجة محلة إلى تدخل عقلاني، لحلحلة الوضع بإيجاد حل سياسي، يضمن تحقيق المطالب المشروعة للمحتجين، ويوقف نزيف الاعتقالات والمحاكمات التي ورطتنا فيها المقاربة الأمنية من ناحية. ويحرص على استمرار النموذج المغربي، ذي الطابع الاستثنائي على الصعيد العربي من ناحية ثانية. ويحول من ناحية ثالثة، دون صناعة جمهورية وهمية في شمال المغرب، على غرار تلك المتوهمة في الجنوب، أو كما قال أحدهم: "صناعة أكراد جدد في شمال المغرب".