نهاية النظرية .. الأزمات المالية وفشل علم الاقتصاد «1»
صدر كتاب جديد للمصرفي ريتشارد بوكستابر بعنوان: "نهاية النظرية .. الأزمات المالية، فشل علم الاقتصاد، وقوة التفاعل البشري". الكتاب معرفي وتحليلي، ولذلك تصعب مراجعته في عمود واحد، ولذلك رأيت استعراضه على عدة أعمدة تباعا خاصة أن الكتاب من خمسة أجزاء. نستعرض اليوم الجزء الأول، حيث يبدأ بوصف الإشكالية ويستعرض الظواهر المسببة للإشكالية ويطرح أفكارا بديلة على أثر تجاوز الظواهر المصاحبة للفشل. على أثر الأزمة العالمية زارت الملكة إليزابيث كلية لندن للاقتصاد وسألت: لماذا لم يتوقع أحد الأزمة المالية العالمية؟ كان رد روبرت لوكس من جامعة شيكاغو أن علم الاقتصاد لم يرتق للحدث، لأن النظرية الاقتصادية ناقصة وأسست بطريقة لا تستطيع بها التنبؤ بمثل هذه الأزمات.
يقوم علم الاقتصاد على النظرية "الكلاسيكية الجديدة" التي أخذت علم الاقتصاد باتجاه العلوم الطبيعية على يد الإنجليزي جيفنوز في تحويل الأفكار والظواهر إلى معادلات رياضية، هذا التوجه يفترض أن الإنسان يتصرف بعقلانية ورتابة موضوعية. أثبتت الأزمة أن النظام الاقتصادي أكثر تعقيدا، وأن سلسلة التصرفات البشرية قد تكون عقلانية على المستوى الفردي، ولكن مجمل تصرف المنظومة قد لا يكون عقلانيا، كما أن ظاهرة الأنظمة المعقدة مستوى آخر من التعقيد وعدم القدرة على قراءة أنماط التصرفات الجماعية. إذ يغلب على الإنسان الرغبة في التكيف لعدم قدرته على فهم النظام المعقد، هضم الكم الهائل من المعلومات قبل القرار غير ممكن واعتماد قرارك على قرار الآخرين جزء أساس من السياق. الاختبار الحقيقي لعلم الاقتصاد يأتي في التعامل مع الأزمات. لدى الجميع نظريات وأنظمة وسياسات ولكنها في الآخر فشلت. يقول الملاكم تايسون، إن لدى الكل خطة حتى يتلقى ضربة موجعة في الفم. العيب القاتل في النظرية أنها اختزلت تصرفات البشر في معادلات تبدو علمية، ولكنها لا تساعد على فهم ما يجري.
يطمح الكتاب إلى تقديم طرح يحاول الأخذ في الحسبان طبيعة التصرفات البشرية وتعقيد ظاهرة النظام المعقد. قبل الأفكار والنماذج لا بد من شرح أربع ظواهر يحددها الكتاب كعوامل الفشل، وبالتالي تحمل في طياتها بذور الأفكار المقترحة. الأولى، ما يسميه ظاهرة ما يستجد دون مقدمات، فقد تجد نفسك في زحام في الطريق وتتساءل ما السبب؟ قد يكون حادثا أو إصلاحا في الطريق، ولكن بعد خمس دقائق يزول الزحام ولا تجد سببا. الثانية، ظاهرة عدم الرتابة إذ تعتمد النظرية على سلسلة توقعات رتيبة قياسها ممل ولكن معروف مسبقا، ولكن الحياة لا تخضع لهذا المستوى من الرتابة إذ إن العواطف وتعقيد النظام لا يسمحان، حيث إن التصرفات دائما وليدة السياق وليس الرتابة التي تسبق أو تتبع. الثالثة، ظاهرة التغير المؤثر، فهذا موجود ولكننا لا نراه فلم يتوقع أحد تصرفات الرئيس نيكسون، ولا يمكن أن تطالب مراهقا بأن يستعد تماما لحياة البلوغ ـــ لا بد أن يعيش التجربة. الأخيرة، ظاهرة الاستقصاء الرياضي حيث إن نزعة الاقتصاد في محاولة فهم ما يدور من خلال نماذج رياضية، ولكن تصرفات البشر لا تخضع لهذه النماذج. العالم ليس معادلة نسعى لحلها ولكن تجربة نعيشها.
هذه الظواهر تحمل في مضامينها ونتائجها مدى حجم التحدي وأسباب فشل النظرية في التنبؤ بالأزمة أو تقديم حلول. لا بد من ذكر أن الكتاب يتعامل في الأساس ليس ضد كل التطبيقات الاقتصادية، ولكن يتعامل فقط مع المالية وثانيا: أن الكتاب لا يقترح نموذجا محددا إذ إن العالم المالي لا يخضع للتعامل كمعادلة رياضية. سنستعرض هذه الظواهر من خلال المقارنة بين الطبيعة البشرية وبين ما تطالبنا به النظريات الاقتصادية بدرجة من التفصيل في العمود المقبل.