كيف أخطأت قطر استراتيجيا؟

من أسس بناء أي نظام اقتصادي ناجح تحقيق منظومة من العلاقات السليمة والصحية مع دول الجوار أولا ثم الدول الأبعد والأبعد وخصوصا إذا كانت الحدود الجغرافية محدودة جدا فلا تترك خيارات لصانع القرار إلا بناء علاقة قوية وتكامل المصالح مع الجيران، هذا هو التفكير الاستراتيجي السليم والتخطيط البعيد المدى إلا أن حكومة قطر بشكل أو بآخر لم تراع هذا القانون الذي لا يحتمل الكسر أو المخالفة وخلال السنوات الماضية زادت من توتراتها مع جاراتها وبالذات السعودية التي تملك المنفذ البري الوحيد لها مع العالم، وحدود بحرية في أغلبها مع دول سعت إلى توتر العلاقة بينها في منحى يؤدي في نهايته إلى خسائر ومضاعفات اقتصادية كبيرة جدا على الدولة في مغامرة قد تعطي مكاسب مع دول بعيدة "في حال لجوئها إليها وهو أمر مستبعد" وغير متكاملة معها اقتصاديا ومع ذلك لن تعوض هذه الخسائر أبدا، إن من أبرز الأضرار على قطر خسائر نتيجة قطع خطوط لوجستية سهلة وغير مكلفة، على سبيل المثال إغلاق منفذ سلوى سوف يقطع إمداد قطر بالسلع، وبالتالي وبكل تأكيد، سوف تقع قطر "إذا امتدت وطالت مدة العقوبات" في حالة تضخم من الصعب السيطرة عليها وحتى لو لجأت إلى الإمداد عن طريق الطيران فهو مكلف جدا، من الخسائر منع مرور طائرات الخطوط القطرية فوق السعودية سوف يفقد جاذبية استعمال الخطوط بسبب اضطرارها لأخذ مسارات بعيدة لتعوض المسارات الممنوعة ناهيك عن منع الخطوط من العمل في البلدان التي حظرتها وهذا يسبب خسائر مباشرة للشركة ولسمعتها، من جانب آخر، تم منع تداول الريال القطري الأمر الذي سيضغط على الريال وعلى المضاربة عليه حيث إن البنك المركزي القطري سوف يكون مشغولا خلال الفترة المقبلة بالدفاع عن سعر الصرف وهو قادر بما لديه من احتياطيات لكن بكل تأكيد لا أحد يريد أن ينشغل بالتدخل في الأسواق للحفاظ على العملة وخصوصا إذا طالت المدة فإن العملية سوف تكون مرهقة ومكلفة.
كل هذه المضاعفات الاقتصادية لها ثمنها الباهظ والمكلف بدءا من ارتفاع في التضخم الخارج عن السيطرة إلى المضاربة على العملة وأخيرا التصنيف السيادي الذي سوف يضر بالسندات والديون القطرية حيث سوف ترتفع تكلفة الديون والتأمين عليها إذا تم تخفيض "متوقع" للتصنيف السيادي لدولة قطر وهو ما ألمحت إليه بعض وكالات التصنيف، إذن يتجلى وبكل وضوح حجم الآثار السيئة "اقتصاديا" على قطر من جراء تخطيط وسياسات غير محسوبة ومعاكسة تماما لأهم القوانين الاستراتيجية في العلاقات والمصالح مع المحيط الجغرافي لدولة كان يجب عليها دراسة وفهم مقدراتها الجغرافية والاقتصادية قبل اللعب بالنار والإضرار بعلاقاتها مع جيرانها الأهم لتحقيق مصالح في محيط بعيد عنها ولا يتكامل مع محيطها الجغرافي ولا الاقتصادي وهو ما تم إثباته اليوم وغدا إذا لا سمح الله لم تحل المشكلة وتتراجع وتتصالح قطر مع أهم شركائها وتترك مشروعها المتضاد مع جيرانها الاستراتيجيين، لم تلجأ المملكة إلى هذه الإجراءات البالغة القساوة وهي المعروف عنها الحلم والتعقل إلا بعد أن وصلت الأمور إلى حد لا يمكن الاستمرار بسياسة المداراة والانتظار في زمن أصبح لا بد فيه من تحديد الخيارات والشراكات بشكل واضح وصريح وإلا فإن العقوبات الاقتصادية إذا امتدت تكاليفها لا يمكن أن يتصورها المواطن القطري اليوم وقد تذهب بكثير من المنجزات القطرية في مهب الريح وهو الأمر الذي لا يتمناه أي خليجي لأخيه القطري فالشعب القطري هم أخوة وتربطنا بهم علاقة قرابة لكن تصرفات القيادة هي التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم. وما يحدث اليوم هو أكثر من رسالة بل هو تطبيق فعلي لتبيان المصالح ومن هم الشركاء الحقيقيون في المنطقة ومن يستطيع من الجيران أن يحقق لقطر مشروعا نهضويا اقتصاديا عند المصالحة وفهم قوة وتأثير هذه الدول في اقتصاد دولة قطر وهذا درس عملي وإن كان مكلفا ولم يتمن أحد أن يحدث لكن وضح بجلاء أن قطر لا يمكن أن تستمر وتنهض اقتصاديا وهي على خصومة واختلاف مع جيرانها وبالذات مع السعودية.
في الختام قد يكون من المستبعد ألا تكون قطر على علم بحجمها ومحدودية قدراتها الجغرافية لكن من المتوقع أنها لم تتصور أن تلجأ السعودية والدول الخليجية الأخرى إلى هذا المستوى من العقوبات وهو ما يؤكد أنه في كلا الاحتمالين فقد أساءت قطر تقدير الموقف تماما وهو في نظري أكبر خطأ استراتيجي ارتكبته حكومتها، وعليها إصلاح هذه المشكلة سوف يكون مكلفا عليها بشكل لم تتوقعه لكنه ضروري لتعود المياه إلى مجاريها وتعود قطر لتخدم مصلحتها ومصلحة جيرانها الاستراتيجيين الذين تربطها بهم علاقة أخوة ورحم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي