«دار الهلال» .. كيان ثقافي لا يمكن تجاوزه
إذا ما تجاوزنا الحقيقة المعروفة حول أولى المطابع في مصر وكان ظهورها أثناء حملة نابليون عام 1798 لأغراض الدعاية للحملة، وخروجها مع خروج نابليون عام 1801، فإن الحقيقة الثانية هي أن مصر لم تعرف المطابع بعد ذلك إلا عام 1821 حينما أنشأ محمد علي باشا "مطبعة بولاق" لإصدار الجريدة الرسمية تحت اسم "الوقائع المصرية". غير أن "مطبعة بولاق" قامت أيضا بطباعة ونشر الكتب المدرسية والمؤلفات العسكرية والمعاجم (قاموس عربي - إيطالي مثلا) وبعض الكتب العربية القديمة، ناهيك عن طباعة الكتب المترجمة من التركية واللغات الأوروبية.
ومن مآثر محمد علي باشا الأخرى في السياق نفسه توجيه أوامره بتعيين مدرس هندي لتعليم التلاميذ الخط وحروف الطباعة، وإنشاء مصنع للورق (كاغدخانة) بجوار "مطبعة بولاق"، وإيفاد بعثة إلى إيطاليا لدراسة فن الطباعة. وعلى الرغم من ظهور مطابع أخرى مثل "المطبعة الأهلية القبطية" عام 1860، و"مطبعة وادي النيل" عام 1866، فقد ظلت "مطبعة بولاق" هي الناشر الأبرز والأقوى في مصر والعالم العربي طوال النصف الأول من القرن الـ19. على أن هذه المطبعة تبدلت أحوالها وتغير اسمها وموقعها والجهة التي تتبعها عدة مرات في الفترة بين عامي 1881 و1896 ما أثر في أحوالها ونشاطها نسبيا.
ولئن كانت "مطبعة بولاق" كيانا لا يمكن تجاوزه أو الإقلال من دوره وقيمته عند الحديث عن تاريخ الطباعة والنشر والمعرفة في مصر والعالم العربي، فإن الشيء نفسه ينطبق على "دار الهلال" التي احتفلت أخيرا، من خلال تظاهرة ثقافية كبيرة، بمرور 125 عاما على إنشائها. فلأنها ظهرت في مصر عام 1892 كمؤسسة ثقافية صحافية مصرية عربية على يد الأديب والروائي والمؤرخ والصحافي اللبناني جورجي حبيب زيدان (1861 - 1914)، ولأنها الأقدم تاريخيا في هذا المجال، فمن المحال إغفال دورها الثقافي والتنويري، خصوصا أن ما صدر عنها (ابتداء من مجلة "الهلال" التي صدر العدد الأول منها عام 1892 فدخلت التاريخ كواحدة من أقدم المجلات العربية الثقافية) كان يلقى قبولا واسعا ويحظى باهتمام جماهيري، ناهيك عن أنها كانت بمنزلة مدرسة تخرجت فيها الأسماء الكبيرة في عالم الثقافة العربية، وقلعة من قلاع الدفاع عن العروبة والوطنية بفضل إسهامات عمالقة الفكر والأدب فيها.
وبالنسبة لأبناء جيلي، ممن ولدوا مع انعطاف النصف الأول من القرن الـ20 وعاشوا عصرا لم يكن يعرف من وسائل إشغال الفراغ سوى قراءة الكتب والصحف والمجلات القادمة من القاهرة، فإن "دار الهلال" تحظى بمكانة سامية في الذاكرة، واسمها محفور في الوجدان، كيف لا وهي التي علمتنا الادخار من أجل شراء منتجها الثقافي، وعلمتنا حالة التلهف والترقب والانتظار، والوقوف في طوابير لشراء ما كان يصدر عنها من مواد استقينا منها معارفنا في سنوات التكوين والوعي الأولى.
لقد انشغل بعض من أبناء جيلنا في مراحل الدراسة الأولى بمطبوعتين صادرتين عن "دار الهلال" هما: مجلة "سمير" الكرتونية التي صدر عددها الأول عام 1956 وما زالت تصدر إلى اليوم؛ ومجلة "ميكي" الكرتونية أيضا التي رأى عددها الأول النور عام 1959 واستمرت تصدر مذاك حتى عام 2003، حينما اختلفت "دار الهلال" مع شركة والت ديزني صاحبة قصص ميكي ماوس حول جودة المطبوعات وقررت الأخيرة حل الاتفاق المبرم بينهما، وعقد اتفاق جديد مع "شركة نهضة مصر للصحافة والإعلام" التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى عام 1938.
غير أن البعض الآخر انشغل بمطبوعتين أخريين لعبتا دورا مهما في تثقيفه سياسيا وفنيا، أولاهما مجلة "المصور" التي صدر عددها الأول في 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1924 وتميزت عن سائر المطبوعات العربية الأخرى في تلك الحقبة بمواكبة أحداث العالم ليس بالكلمة فقط وإنما بالصور الفوتوغرافية أيضا كتجسيد لاسمها، فذاع صيتها وارتفع رصيدها الشعبي وصارت مجلداتها اليوم مرجعا مهما للباحثين في علوم السياسة والاجتماع والتاريخ والأدب والفن والتصوير، علما أنه تناوب على رئاسة تحريرها ثلة من ألمع رواد الإعلام في مصر من أمثال إميل وشكري زيدان، فكري أباظة، علي أمين، أحمد بهاء الدين، صالح جودت، أمينة السعيد، مكرم محمد أحمد، وصولا إلى رئيس تحريرها الحالي غالي محمد.
أما المجلة الثانية فهي "الكواكب" التي صدر عددها الأول في 28 آذار (مارس) 1932 وما زالت تصدر حتى اليوم، كمطبوعة أسبوعية متخصصة في أخبار المشاهير من نجوم المسرح والسينما وإجراء الحوارات معهم ونشر مقالات تحليلية ونقدية لآخر الأفلام السينمائية العربية والعالمية. وهذه المجلة تناوب على رئاسة تحريرها أيضا ثلة من المشاهير في مجال الأدب والنقد والإعلام مثل: فهيم نجيب، مجدي فهمي، سعد الدين توفيق، رجاء النقاش، راجي عنايت، حسن إمام عمر، حسن شاه، محمود سعد، فوزي إبراهيم.