ما الذي تغير في سلوكيات المجتمعات العربية؟
يقول الفيلسوف "بيركلير" قبل 24 قرنا "هيا بنا ننهض فقد طال جلوسنا فوق التوافه". ورغم أنها قيلت قبل 24 قرنا إلا أنها تمثل شيئا من واقعنا هذه الأيام حينما انشغلنا وأشغلنا من حولنا بالتوافه وتعظيمها في كثير من الأمور. فنرى الكثير من الناس لا هم لهم إلا الحديث عن التوافه التي تقود في كثير من الأحيان إلى التراشق والعراك والعناد والانتقاص من الآخر.
ونريد أن نقف عند هذه الظاهرة ونحلل ما يدور حولهم وما بينهم وكيف وصلوا إلى هذا الحد من التنافر. لقد كنا نقبل هذا إبان الجاهلية الأولى لأنها من سمات تلك الحقبة أما وقد أعزنا الله بالإسلام ورفع قدرنا من جاهلية عمياء إلى روحانية وصفاء، وعرفنا أن الصراعات من أجل التوافه ومن أجل كلمة عابرة أو جملة غير مقصودة أو نظرة مريبة عمل غير مجد.
وحتى نبين سيطرة التوافه على سلوكيات المجتمع في زمن الجاهلية ونقارنها بما هي عليه الآن دعونا نلقي نظرة على أطول الحروب التي خاضتها قبائل العرب قبل الإسلام من أجل تصرف تافه ونقارنها بحالنا اليوم. تقاتل العرب في الجاهلية لمدة تزيد على 40 عاما بين فرعين من قبيلة غطفان في نجد هما عبس وذبيان من أجل فرسين تسابقا: الأول حصان يطلق عليه "داحس" والثانية فرس يطلق عليها "الغبراء" كان سبب الحرب سلب قافلة حجاج للمناذرة كانت تحت حماية الذبيانيين ما سبب غضب النعمان بن المنذر فأوعز بحماية القوافل لقبيلة عبس بدلا من ذبيان مقابل عطايا وشروط اشترطتها عبس على المناذرة فوافقوا عليها. إلا أن هذا الاتفاق تسبب في غيرة بني ذبيان، فخرج سيدهم وبعض من أتباعه لمقابلة أندادهم من عبس وتصادف أن كان يوم سباق للخيل. فاتفق الطرفان على أن من يسبق فرسه في السباق يكون من حقه حراسة قوافل النعمان.
ولكن سيد ذبيان حمل بن بدر أوعز لنفر من أتباعه أن يختبئوا في الشعاب قائلا لهم: إذا وجدتم داحس متقدما على الغبراء في السباق فردوا وجهه كي تسبقه الغبراء فلما فعلوا تقدمت الغبراء. إلا أن أمر المكيدة انكشف بعد ذلك فاشتعلت حرب بين عبس وذبيان دامت 40 عاما. وقد مات في هذه الحرب أقوى فرسان القبيلتين ومنهم عنترة بن شداد العبسي وعروة بن الورد. تخيل معي أقوى فرسان قبيلة عبس وأشجعها وأفحل شعرائها يقتل بسبب فرس سبقت حصانا. وداحس والغبراء ليست الحرب الوحيدة التي دامت سنوات طويلة لأمور تافهة بل أعقبتها وسبقتها حروب كثيرة مثل حرب بني أصفهان وحرب البسوس وحرب الفجار وحرب بعاث.
فحرب البسوس على سبيل المثال كانت بين بكر وتغلب في وادي الخيطان في منطقة الباحة التي دامت 40 عاما بسبب امرأة تدعى البسوس خالة الجساس بن مرة وكانت نازلة في بني شيبان عند جساس ولها ناقة فمرت إبل لكليب بن ربيعة التغلبي ـــ وكان سيدا لقبائل معد وملكا عليهم ـــ مرت بالناقة وهي معقولة فلما رأت الناقة الإبل نازعت عقالها حتى قطعته وتبعت إبل كليب واختلطت معها فلما رآها كليب بين الإبل أنكرها فرماها بسهم في ضرعها فنفرت وهي ترغو فصاحت البسوس "وا ذلاه وا جاراه". فسمعها الجساس بن مرة عندها ركب فرسه حتى دخل على كليب في حماه فقال له "أيا أبا الماجدة، عمدت إلى ناقة جارتي فعقرتها" فقال له كليب: "أتراك مانعي أن أذب عن حماي؟" فغضب جساس فضرب كليب وقطم صلبه. فسعر هذا الحدث حربا بين بكر وتغلب مدة 40 عاما.
تخيل معي أنك تبقى تحارب 40 عاما بسبب أن فرسا سبقت حصانا؟ أو أن رجلا قتل بناقة فتسعر الحرب عقودا من الزمن؟ ما أحقرها من معركة وما أسخفها من حرب.
نعود لموضوعنا فنقول إن ما يحدث في بعض التجمعات والاستراحات والمباريات الرياضية العربية من تراشق وسباب وخصام وما نراه منذ مدة طويلة من إساءات ونفاق وما يتبعه من عبارات نابية يشابه إلى حد كبير ما يحدث بين العرب في الجاهلية الذي يختلف فقط هنا القتل وحمل السلاح ومن يسمع ويرى ما يدور بين هؤلاء يحكم عليهم بأن هؤلاء أمة لا أخلاق لها ولا دين يجمعها، فهل هذه جينات موجودة في الجنس العربي تظهر عندما يبتعد عن مصدر قوته والنور الذي أرسله الله له؟!