«أجسام تكبر وعقول تصغر» .. بصمة التقنية على أدمغتنا
لا يمكن لأي قارئ أن يطالع كتاب "تغير العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا"، الذي نقله إلى اللغة العربية حديثا؛ في فبراير 2017 في سلسلة عالم المعرفة الكويتية، المترجم المصري إيهاب عبد الرحيم علي، لمؤلفته سوزان غرينفيلد (SusanGreenfield) الصادر شهر آب (أغسطس) 2015 في نسخته الأصلية باللغة الإنجليزية، تحت عنوان ( Mind Change: How Digital Technologies Are Leaving Their Mark on Our Brains)، دون أن يراجع نفسه ومواقفه، ويعيد النظر في علاقته مع التقنية الرقمية.
تقدم الأكاديمية البريطانية طيلة صفحات الكتاب الموزعة على 20 فصلا، ومن زاوية نظر مختلفة يطبعها النفس التشاؤمي، تحذيرا حول تأثيرات التكنولوجيا الحديثة على التفكير البشري، فهي ترى أن هذه التقنية لا تسبب الإدمان فقط، وإنما تشكل تهديدا وخطرا جوديا على البشرية. إن الدماغ كما تقول لديه "إلزام نشوئي للتكيف مع بيئته"، والعالم الرقمي يتغير بوتيرة سريعة جدا لا تسمح للأشخاص أو المجتمع لمواكبته. لتوضيح ذلك تعمد إلى الاستشهاد بالتغير المناخي الكوكبي، إذ يمكن أن يقدم استعارة مفيدة للكيفية التي يجري بها بشكل متهور، تبدل العقول البشرية بيئاتنا الداخلية بواسطة التقنيات الرقمية.
تزعم الأستاذة في جامعة أوكسفورد بأن جميع أنواع التكنولوجيا المحيطة بنا، بقدر ما هي مصدر أساسي للمعلومات المباشرة تشكل بالموازاة سببا نخسر به خصوصيتنا بشكل سريع، خاصة بعد انتقال الرقمية في السنوات الأخيرة من المكاتب ومقرات العمل إلى غرف المعيشة وجيوب الأفراد.
خصت الباحثة شبكات التواصل الاجتماعي بأكثر من فصل فصّلت فيها تأثيراتها على الهوية، فبحسبها "سيكون لشبكات التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" بالغ الأثر على الأنظمة الدماغية، فهي ستؤدي بعقل الإنسان بحلول منتصف القرن الحالي إلى أن يصبح طفوليا تماما، وعرضة إلى الوقوع في متاهات السهو وعدم القدرة على التركيز والحس المهزوز بالهوية".
وفي سؤال استنكاري صادم تتساءل: "لماذا لا يسألنا موقع فيسبوك عن سلبياتنا"؟ فالهوية لدى أهل الثقافة الرقمية "مثالية مبالغا فيها"، قوامها الحرص على الظهور بصيغة أفضل تبدو مثالية، وكأنهم أشخاص في الفضاء الرقمي مختلفين عن الحياة الواقعية تماما. فجيل الـ"يوتيوب" مثلا مهتم أكثر بالتعبير عن نفسه أكثر من الاهتمام بمعرفة العالم. وهو ما تؤكد بقولها، "لقد اتسم البشر دائما بالغرور والأنانية، والقابلية للتفاخر، لكن الشبكات الاجتماعية توفر الآن الفرصة للانغماس في هذا السلوك من دون انقطاع وعلى مدار الساعة"، وتضيف في فصل مميز حول التواصل عبر الشبكات الاجتماعية والعلاقات بأن "غياب الفرصة على الإنترنت للتدريب على المهارات الاجتماعية قد ينبئ كذلك بحدوث انخفاض في العلاقات العميقة وذات المغزى".
تشير الباحثة في ذات السياق إلى أن مدمني وسائل التواصل الاجتماعي يفقدون قدرتهم على التواصل الفعال مع الآخرين، فلا يتم استخدام لغة الجسد أو نبرة الصوت ونظرات العين عند التواصل الإلكتروني. وهذا يفقد التواصل العاطفي بين الناس، وهذا خطير فلا يشعر أحد بوقع كلماته على شخص ما لأنه لا يراه، وبالتالي يفقد قدرته على الإحساس بمشاعر الآخرين، وهذا يعزز شعور الأنا والانتصار لأنه يقيم نجاحاته بعدد المعجبين أو بعدد المشاركات فقط.
يكشف هذا الكتاب النوعي عن تداعيات التعقيدات الفسيولوجية والاجتماعية، والثقافية المعيشة في العصر الرقمي، ويدعو إلى العمل لضمان مستقبل للتقنية تعزز -ولا تحبط- التفكير العميق، والإبداع الإنساني. مطلقا في ذات الآن صرخة تحذيرية للأقلية القلقة مما يواجهنا، وبالأخص بعدما أضحى العالم الافتراضي أكثر مباشرة وأهمية من نظيره الواقعي بأبعاده، فهذا العالم أصبح مكانا مفعما بالقلق المزعج أو الابتهاج المظفر خلال اندفاعنا داخل دوامة الشبكات الاجتماعية للوعي الجماعي. إنه عالم موازٍ حيث يمكنك أن تكون متحركا في العالم الحقيقي، ومنجذبا في الوقت نفسه دائما إلى زمان ومكان بديلين.
يتساءل البعض وهم على حق، كيف يمكن للتكنولوجيا أن تؤثر في الوعي بالهوية أو الذاكرة العضوية؟ وللمؤلف أسئلة مشروعة وجوهرية، من قبيل: ما إذا كان الجيل المقبل سيفكر نقديا بشكل أقل من أسلافه، أم بشكل أكبر؟
بصيغة أخرى نقول، تكون هذه التكنولوجيا عاملا جوهريا في إيجاد بيئة جديدة لها تداعيات كثيرة ومهمة على كل ما يحيط بها، لأن عقولنا تتأقلم بشكل حسي، ويعاد ترتيب خلاياه بشكل جديد أو ضمور بعضها، ومن ثم تتساءل الكاتبة، كيف نستطيع أن نسخر هذا الوسط التكنولوجي الجديد لإيجاد بدائل أفضل لمستقبلنا وحياة ذات معنى، قبل أن نتحول إلى عبيد تسخرنا التكنولوجيا لخدمتها؟
وتعطي عن ذلك شواهد وأدلة، ففي نظرها كلما تناقص وقت لعب الأطفال في الهواء الطلق، انخفض ما يتعلمونه لمواجهة الأخطار والتحديات التي سيواجهونها كبالغين. لا شيء يمكنه أن يحل محل ما يكتسبه الأطفال من الحرية واستقلالية الفكر من خلال تجربة أشياء جديدة في العراء.
في أحد فصول الكتاب حول الدماغ، تؤكد على أن هذا الأخير يتمتع بقدرة تطورية على التكيف مع بيئته وهنا تذكرنا بأن قراءة الكتب أفضل طريقة للتعلم. لكن هذا القول بات مرفوضا في أوساط الشباب بسبب تنامي دور الإنترنت بينهم ما ينعكس على انخفاض قدرة الذاكرة، وعن ذلك تقول: "لماذا يتذكر تلميذ حاصل ضرب تسعة في تسعة طالما يعلم أن الحل في هاتفه الذكي أو حاسبه الآلي؟ حتى الأسماء يستطيع أي شخص كتابة الاسم الأول لصديقه في محركات البحث ليتذكر اسمه بالكامل".
بقي أن نشير أخيرا إلى تأمل جميل أوردته الباحثة في فصل لها بعنوان "تغير العقل: ظاهرة عالمية"، ربما يكون مفتاحا لنا للتأمل فيما نحن فيه من علاقة مع وسائل التقنية الرقمية، وفيه تقول: "لا يمكن لأحد طرح حجة مقنعة لإعادة الزمن إلى الوراء، إلى الوقت الذي كان فيه تسليم الرسائل البريدية يستغرق أياما. ولكن ربما كانت هناك بعض المزايا لامتلاك وقت للتأمل قبل الرد على وجهات النظر أو المعلومات. وربما توجد فوائد لتنظيم وتيرة يومك وفقا لاختيارك، وحسب سرعتك الخاصة".