صرخات قطاع البتروكيماويات التحذيرية

تملك صناعة البتروكيماويات في السعودية خبرات وتاريخا يتجاوز الآن 40 عاما، واستطاعت هذه الصناعة أن تتطور وتنمو لتجعل من نفسها أكبر مصدر بعد النفط، واستثمارات ضخمة وفتح وظائف مباشرة وغير مباشرة تتجاوز 180 ألف وظيفة على أقل التقديرات. هذه الصناعة لم تستحدث وتتطور لولا الله ثم توافر مادة اللقيم وبأسعار مدعومة وإرادة دولة للاستفادة من المواد الخام بدلا من تصديرها لتعود إلينا من جديد بعد معالجتها وتصنيعها بأسعار مضاعفة محققة للدول التي حولتها وصنعتها الفائدة المضافة لهم. اليوم ورغم كل هذه الإنجازات وبناء الخبرات والقدرات ما زال الشك يحوم حول قدرة القطاع على الاستجابة لرفع الدعم عنه سواء من ناحية اللقيم أو الطاقة وهو ما يطرح تساؤلا عما كان يفعله القطاع ومسؤولوه كل هذه الفترة رغم علمهم بارتفاع أسعار اللقيم حسب ما هو مخطط له منذ فترة طويلة وهل هنالك تنسيق حقيقي ومتين بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص حول الخطط المستقبلية ومساعدة القطاع ليرفع من قدراته تحت إشراف برامج حكومية ترعاها الحكومة وتدعمها للمساعدة كما تفعل جميع دول العالم لتقوية القطاعات المستهدفة واحتضانها والإشراف عليها لتسير حسب ما هو مخطط له بدل ضياع مليارات الريالات كاستثمارات وقروض في مشاريع تفتقد التوجيه والرعاية.
إن متابعة نتائج الشركات في قطاع البتروكيماويات داخل السوق السعودية كفيلة بملاحظة هوامش الربحية ومستوى التكاليف التي إلى هذا المستوى من التكاليف (اليوم) لم تتضرر بشكل كبير، لكن من تصريحات بعض مسؤولي القطاع التي كانت عبارة عن صرخات تحذير عن مستقبل القطاع وعدم قدرته على تجاوز تكاليف ارتفاع الطاقة، أو حسب ما ذكر أن تكاليف الطاقة تتجاوز ما هو مفروض على المصانع لدى دولة صناعية كبرى مثل الولايات المتحدة، وهذا التصريح في الحقيقة ينذر (إذا كان دقيقا) بما هو أبعد من إضعاف منافسة القطاع مستقبلا في الأسواق العالمية، إلى غرابة ارتفاع أسعار الكهرباء أو الطاقة بشكل أكبر مما هو موجود في بلد يطبق الرأسمالية والأسواق الحرة! وأكرر إذا كانت هذه المعلومة صحيحة فيجب أن تراجع سياسة التسعير من جديد، بسبب أنه زيادة على ارتفاع التكاليف سواء من ارتفاع أسعار اللقيم أو بسبب ارتفاع أسعار الطاقة فإن وضع قطاع البتروكيماويات عالميا يمر بمرحلة صعبة من التنافسية وارتفاع العرض، فمثلا في الولايات المتحدة وبسبب النفط والغاز الصخري أصبحت مادة اللقيم متوافرة وبكثرة هناك وهو ما أدى إلى توسعات كبيرة في مشاريع البتروكيماويات وبالتالي زيادة كبيرة في العرض. الحالة نفسها لدى الصين التي توسعت في صناعة البتروكيماويات بشكل كبير ومتسارع، ولديها خطة طموحة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذه الصناعة قريبا، ولا ننسى إيران التي تملك احتياطيات ضخمة من الغاز، التي متى ما عادت إلى التوسع في هذه الصناعة فمعناه مزيد من العرض. إذا لا يبدو مستقبل القطاع ورديا تماما، بل سيواجه تحديات كبيرة تستوجب الاستعداد من ناحية خفض التكاليف أولا والمحافظة على العملاء والأسواق ثانيا.
إن وجهة نظر الحكومة في القرارات الأخيرة أنه لا يمكن الاعتماد وبشكل أبدي على مصادر الطاقة الرخيصة والمدعومة، وهذا الذي سبب نهم الصناعة بشكل عام والاقتصاد على استهلاك مفرط للطاقة. وكما أوضح وزير الطاقة والصناعة أن المملكة تستهلك من النفط والغاز ما يقارب خمسة ملايين برميل نفط مكافئ وهو بكل المقاييس عال جدا وغير مرشد تماما، لكن على الجانب الآخر وبسبب كل ما تم ذكره في الأعلى من مشكلات، ستزيد معاناة هذا القطاع، وقد تضر بصناعة توظف عشرات الآلاف من الشباب اليوم، وتحتها مليارات الريالات من الاستثمارات. ولذلك، وكما وضعت الحكومة في برنامج التوازن المالي دعما للقطاع الخاص، خصوصا القطاعات ذات الاستخدام المكثف للطاقة ليتم رفع كفاءتها في استخدام الطاقة بدعم مباشر من الدولة، يجب إعداد برنامج خاص لقطاع البتروكيماويات يحمل كل مخاوف القطاع، والاستماع له بشكل جيد ومحاولة رعايته في هذه الفترة حتى يتم رفع كفاءة القطاع وتماسك تكاليف الإنتاج فيه مع الاحتساب للتغيرات المستقبلية في أسعار المنتجات، أو حتى دعمه للدخول في صناعات تحويلية ومتخصصة تحقق مزيدا من القيم المضافة وتبعده عن أسواق متشبعة. بكل تأكيد هناك تنسيق بين القطاعات الحكومية والقطاع الخاص خصوصا البتروكيماويات، لكن من الواضح أنه غير كاف، ولم ينجح في تهدئة القطاع أو قيادته (بالإشراف والخطط المنسقة بينهما) إلى تصور واضح ومطمئن عن مستقبله وجاهزيته لكل التغيرات العالمية التي ستحدث لهذا القطاع مستقبلا. وأعتقد أن المسؤولية تقع على الجميع (القطاع الخاص والحكومة) في رفع جاهزيته وتنافسيته إلى مستوى التحدي القادم مستقبلا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي