محمد الطالبي .. مفكر حر يرحل في صمت

محمد الطالبي .. مفكر حر يرحل في صمت

بداية الأسبوع الجاري غيب عنا الموت رقما ثقيلا في معادلة الفكر والثقافة بتونس والعالم العربي وأوروبا، وواحدا من أبرز الأكاديميين المعروفين بآرائهم ومواقفهم واجتهاداتهم المثيرة للجدل بشأن فهم الإسلام؛ وتحديدا في تحليل وتأويل مضامين القرآن الكريم.
يعد الراحل محمد الطالبي (92 سنة) أحد أعمدة الفكر في تونس، ينتمي إلى الجيل الذي أسس الجامعة التونسية الحديثة. يصنفه الكثيرون في زمرة تيار تجديدي تونسي من بين رموزه يوسف الصديق وهشام جعيط وعبد المجيد الشرفي وآخرين. لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فالرجل يتقاسم مع هؤلاء شعار النقد والتجديد، غير أنه يحتفظ لنفسه بالكثير من الخصوصية في أطروحته الفكرية ورؤيته النقدية، لدرجة جعلته في مرمى سهام الطرفين؛ التقليدين والحداثيين.
ألف محمد الطالبي، على امتداد ستة عقود، ما يناهز 30 كتابا، ما يترجم مسيرته الأكاديمية ويجسد تراثه الفكري. لا يدرك الكثيرون أن الرجل كتب في مجالات أخرى خارج الدراسات الدينية التي وصف كثيرون آراءه فيها بـ"الهرطقة الفكرية".
فقبل بل انغماسه في هذا المجال، خصّص حصة معتبرة من اهتماماته لقراءة تاريخ المتوسط، والمغرب الكبير بشكل خاص في القرون الوسطى. وجاء عمله التأليفي بعد سنوات من الدرس والتدريس، حيث أكمل تعليمه في "السوربون"، وكانت أطروحته فيها بعنوان "إمارة الأغالبة: تاريخ سياسي"، التي تناقش أوّل دولة إسلامية في تونس، وكان نقطة تقاطع بين التاريخ والدين التي ستشكل في لاحقا حقل إبداعه الأساسي.
كما قدم الطالبي مقالات مختلفة حول علاقة شمال إفريقيا تاريخياً بجنوب إيطاليا. وكان أحد المفكّرين العرب القلائل الذين كتبوا في تاريخ الرق، وله دراسة حول دور "العبيد" الأساسي في الاقتصاد والزراعة في أوروبا. وكتب أيضاً عن تاريخ إفريقيا وعلاقته بوصول الإسلام وانتشاره، كما ناقش أطروحات صاحب "المقدّمة" في كتابه "ابن خلدون والتاريخ" (1973).
عودا إلى أطروحته في الحقل الديني التي ألبت عليه الأعداء والأصدقاء معا، لنجد أن جوهرها كامن في دعوته إلى العودة بالدين إلى الدين نفسه لا إلى شوائب التراث والتاريخ. دعوته تتكشف تفاصيلها في عديد من المؤلفات ننتقي منها عناوين مثل: "أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه وبالآخرين" (1992)، "أمة الوسط: الإسلام والتحديات المعاصرة-كيف ندخل المعاصرة بلا آهات ولا حسرات ولا دموع" (1996)، "مرافعة من أجل إسلام معاصر" (1998)، "الإسلام.. حرية وحوار" (1999)، "كونية القرآن" (2002)، "ليطمئن قلبي" (2007)... ممن عمل الراحل على توضيح معالم رؤية لمشروع حداثة فعلي، أساسه تجديد الفكر الديني، داعيا العقول إلى "مواجهة تراثها وماضيها بصراحة، هناك أخطاء في تاريخنا يجب الكشف عنها والإشارة إليها قبل التوجه إلى الأمام".
يرفض الطالبي رفضا باتا المحاولات التوفيقية أو "التلفيقية" التي تسعى لربط الشريعة بالديمقراطية، وكانت حجته في ذلك أن الشريعة من زمان ومكان لم يكن لأي مظهر من مظاهر الديمقراطية فيه وجود، وهو مفهوم غائب تماما عن تاريخ الشريعة، ويذهب إلى أن لا الإسلام ولا الحضارة الغربية كانت تعرف شيئا عن الديمقراطية قبل العصر الحديث. لذلك فالديمقراطية بمعنى الممارسة السياسية هي فكرة حديثة تماما، وفي نظره هي الأنسب لعصرنا، غير أنه يقول إن فيها كثيرا من أصل الإسلام مثل العدالة والمساواة أمام القانون.
عارض الطالبي بلا هوادة "التيارات المتطرفة" التي يعتبرها مناهضة للإسلام، كما أنه تصدى بقوة لخطر "رهاب الإسلام" الذي تغذيه بعض التيارات المسيحية. وقال في مقابلته مع واحد من أشهر المجلات الأوروبية: "هؤلاء يرون أن الرسول محمد لم يأت إلا بأشياء سيئة ولا إنسانية".
ثم اتسع نطاق معارضته ليشمل نظام الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي في الفترة (1987-2011)، حيث انضم في عام 1995 إلى "المجلس الوطني للحريات" المنظمة غير الحكومية الحقوقية. بعدما حرص في فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1957-1987) على الابتعاد عن السياسة. كما تولى في عز الثورة التونسية؛ عام 2011، رئاسة بيت الحكمة بقرطاج (المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون).
اتخذ البعض هذا التحول في المواقف على المستوى السياسي مطية لقراءة مسار الراحل، بدءا من إصراره الخروج من المدرسة الاستشراقية التي كان تلميذا فيها؛ عبر قراءة جديدة للدين هجر فيها الرؤية الاستشراقية وهاجمها. الطالبي اليوم، من وجهة نظر هؤلاء، نموذج لمفكر يعكس صراع النخب التونسية، حتى إن بعده التاريخي وانشغاله بالمسألة الدينية ينطمس لحساب مواقف سياسية.
لاشكّ أن هذا القول يكشف مدى اللغط الإعلامي الذي أثير حول آراء الطالبي وشخصيته، وفي ذلك كتب أحدهم يقول: "محمد الطالبي في عمر السبعين عارض ابن علي، وفي عمر التسعين عارض أعداء الفكر الحر. عاش حرا ومات يدافع عن الفكر الحر والتاريخ سيحفظ له ذلك. رغم ما واجهه من بذاءة إعلامية".
وبالموازاة مع ذلك نكتشف أن هذه المحاولات التي تسعى أو تدعي تقييما علميا لمحاولة محمد الطالبي تجديد الفكر الإسلامي، تعكس فيما ورائياته مواقفا انفعالية وعفوية مما تشهد الساحة الفكرية والثقافية التونسية من معارك بعضها ظاهر وأغلبها خفي لا يدركه إلا من خبروا دهاليز قبيلة المثقفين هناك.

الأكثر قراءة