آليات للقضاء على مركزية القرار في منظمات الأعمال
تعد صناعة أصحاب القرار الواحد ظاهرة إدارية تنخر منظمات الأعمال في كل مكان؛ فهي أحد أنواع الفساد الخفي الذي لا يمكن رؤيته أو ملاحظته أو تتبع أثره، وإذا تمكن من منظمة فيصعب التخلص منه لأن المدير يعتاد عليه فيستهويه ويشعره بشيء من السلطان والعظمة.
والمركزيون في ميدان الأعمال لا يأتون من فراغ ولا يولدون من بطون أمهاتهم أصحاب صفات مركزية مسيطرة، بل تتم صناعتهم في البيئات التنظيمية بآليات وطرق متعددة. وهناك عوامل تساعد على ذلك منها المدير نفسه بما لديه من سمات نفسية وقيادية وتقبل، كما أن للبيئة التنظيمية التي يوجد فيها كل من المديرين والموظفين ومدى استعدادها وقبولها للاستبداد لها دور في ذلك. ولكن الدور الأكبر يقوم به الموظفون عندما يبادرون بتكوين شخصية رئيسهم حتى يصبح دكتاتورا دون علمه ثم يسوسونه ويستخدمونه من أجل مصالحهم وأهدافهم الشخصية.
وقد بينت من قبل كيف تتم صناعة أصحاب القرار الواحد في المنظمات، وفي هذا المقال أريد أن أطرح عدة مقترحات تساعد المنظمات في القضاء على آليات صناعة أصحاب القرار الواحد من أجل أن تسير المنظمات إلى وجهتها، وتمارس القيادات دورها الحقيقي، ويؤدي الموظفون أعمالهم بما يحقق أهدافهم وأهداف منظمتهم. وإذا كان الدور الجوهري لتكوين أصحاب القرار يقوم به الأتباع فإن الدور الجوهري للقضاء على هذه الظاهرة يأتي من قبل المدير، وهي مهمة ليست سهلة إطلاقا، خصوصا في البيئات التنظيمية التي اعتادت على صناعة مثل هذه المجموعة التي انتشرت ظاهرتها وتشبعت بحبها وشغفها للاستبداد، حتى أصبحت على شكل قيم وعادات وأعراف تنظيمية. ولن تتغير البيئة التنظيمية إلا إذا غير كل من الموظفين والمدير من أنفسهم وأدركوا أن عملية صناعة المتشبثين بمركزية القرار داخل المنظمات خلل إداري وانحراف السلوك التنظيمي، ما يتسبب في تمزيق المنظمات والقضاء على الإنجازات والبعد عن تحقيق الأهداف؛ لأن كل من في المنظمة يعملون من أجل إرضاء فرد بعينه جعلوا منه ماردا لا تقضى حوائجهم إلا برضاه ولا تتحقق أمانيهم إلا بعفوه ولا يكتب لهم نجاح إلا بمباركته. كما لا تحدد أهداف ولا تصاغ رسالة ولا ترسم رؤية دون أن يكون ضمن بنودها رغبات المدير.
ولتجنب كل هذا على من يقع في قمة هرم المنظمات أن يدرك ما يدبر له عن طريق دراسة البيئة التنظيمية التي يمارس فيها عمله، يسبر غورها، ويستوعب قيمها، ويتعرف على عاداتها، ويعرف كيف تتكون اللوبيات أو ما يسمى في علم الإدارة بالتنظيمات غير الرسمية التي تتكون في الخفاء وتدير نفسها في الظلام. يجب أن يعلم المدير أن هذه التنظيمات غير الرسمية تنشأ عادة في ظل انعدام النقاش ومحاربة النقد. لذا عليه فتح باب الحوار الهادئ المنطقي بعيدا عن التشدق والتبجيل والمجاملات، وعلى المدير أن يسعى إلى ذلك بنفسه ويحرض الجميع على الكلام والنقاش حتى يعرف ما بداخلهم وما يجول في صدورهم. كما ينبغي عليه أن يشعرهم بالأمان فيظهر كل شيء على الطاولة ولسان الحال يقول ليس لدينا شيء نخفيه ولا يوجد لدينا أسرار ولا غموض.
كما يجب إذا أرادت المنظمات القضاء على صناع القرار الواحد قيام القيادات بزيارات ميدانية دورية لإدارات وأقسام المنظمة ليس من أجل تصيد الأخطاء، بل لمعرفة الواقع والاطلاع على الحقائق دون وسيط. هذا أسلم بكثير من إرسال من ينقل لهم الأخبار عن بيئة العمل وهو ما يطلق عليه في أدبيات الأعمال بالتنصت. والتنصت أسلوب رقابي كان يستخدم قديما في بعض منشآت الأعمال وأبرز من وظفه شركة فورد في بداية القرن الماضي إلا أنه تم الاستغناء عنه نتيجة تكاليفه العالية ومحاربته من قبل منظمات حقوق الإنسان. وتم سن قوانين تجرم من يقوم بالتنصت على الموظفين في قطاع الأعمال وإرسال العيون تسترق الأخبار بطريقة دنيئة منافية للأديان والآداب والذوق العام. هذا وإن كان قد استغنت عنه منشآت الأعمال الدولية فمع الأسف ما زال حاضرا في منظماتنا وهو أبرز ما يميز سلوكها التنظيمي، ولا أريد أن أسهب في هذا لأن لي عودة إلى موضوع التنصت في مقالات قادمة ـــ إن شاء الله.
نعود لموضوع المقال فنقول إن مثل هذه الزيارات الدورية من قبل المدير تظهر أمامه الحقائق ناصعة جلية فتمنع التكتلات وتخرس الألسنة، ويعرف بنفسه الطاقات والقدرات ومن يعمل ومن لا يعمل، ولهذا لن يسمح للتنظيمات غير الرسمية بأن تصنع منه طاغوتا تديره من أجل منافعها وتحقيق أهدافها. فالذي يحدث في بيئات الأعمال من تبجيل مبالغ فيه للمدير لا يليق به ولا بأتباعه ولا بالمنظمة ككل.
كل هذه السيناريوهات التي تحدث في البيئات التنظيمية تحركها لوبيات منتفعة داخل المنظمات هدفها مصالح شخصية وفئوية مبطنة، وهم يعلمون أو لا يعلمون أنهم بفعلتهم هذه يصنعون طاغوتا قد يصبح في يوم ما ماردا يصعب عليهم إدارته وإحكام السيطرة عليه. فالمدير الذي يحيط نفسه بهذا الغطاء البشري ويضع نفسه بين الأسوار تغيب عنه الحقائق الناصعة؛ فيبني قراراته على شائعات أو على معلومات من مصادر غير موثوقة، ومثل هذه التصرفات لا تأتي عادة إلا من القائد الذي تنقصه الخبرة ومن يتصف بالبلادة وصعوبة الفهم.
كما أن للجهات الرقابية الرسمية خارج بيئة العمل دورا في محاربة صناع أصحاب القرار والمركزيين داخل المنظمات، وهذا يحتاج إلى تفصيل لعلنا نناقشه في مقال مقبل ـــ إن شاء الله.