رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


حوكمة المؤسسات .. البعد المعرفي وقضية التنمية

في أحاديثنا وكتاباتنا، نسعى إلى استخدام كلمات وتعبيرات تتمتع بالوضوح، ولا يختلف الناس في تفسير مضمونها ولا في دلالاته. لكننا نجد أنفسنا في بعض الأحيان أمام كلمات وتعبيرات نحتاج إليها، لكنها ليست كذلك، لأنها ترتبط بمعان وتفسيرات، ناتجة عن استخدامات مختلفة تبتعد أو تقترب من معناها اللغوي؛ حيث يؤدي ورودها إلى التباس لفهم القارئ في المقصود منها. مثل هذه الكلمات والتعبيرات تحتاج إلى التعريف بها عند استخدامها كيلا يكون ورودها مدعاة لأي سوء فهم أو تفاهم. وغالبا ما يتم وضع تعريفات معيارية لمثل هذه الكلمات والتعبيرات، التي يجري اعتبارها "مصطلحات"؛ وذلك في معاجم خاصة للموضوعات التي ترتبط بها.
نحن في هذا المقال أمام الحديث عن حوكمة المؤسسات. المؤسسة كلمة واضحة الدلالة ومألوفة الاستخدام؛ وقد تكون حكومية أو خاصة، إنتاجية أو خدمية، تعليمية أو صحية أو غير ذلك، كما قد تكون ربحية أو غير ربحية. لكن كلمة "حوكمة " Governance باتت مصطلحا لا بد من التعريف به كي يكون استخدامه في الحديث أو الكتابة واضحا لا لبس فيه. وفي تعريف هذا المصطلح سننظر في معجم مصطلحات منظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية OECD التي تشمل في عضويتها معظم الدول المتقدمة حيث تدعى "نادي الأغنياء". وعلى ذلك فهذه الدول هي الأكثر تأثيرا على مستوى العالم، وما تضعه من مصطلحات هو الأكثر انتشارا.
يقول المعجم في المعنى العام للحوكمة، أي المرتبط بالدول، ما يلي: "الحوكمة هي الممارسة المطلوبة للسلطة سياسيا واقتصاديا وإداريا من أجل التعامل مع قضايا الأمة"؛ ثم يقول المعجم في التعريف بجودة الحوكمة التالي: تتميز الحوكمة الجيدة بالشراكة، والشفافية، والمسؤولية، وحكم القانون، والفاعلية، والمساواة، وما يرتبط بذلك. ويأتي المعجم إلى مصطلح حوكمة المؤسسات ليقول: "إنها تشمل إجراءات إدارة المؤسسة والتحكم فيها"؛ ويضيف أنها تتضمن توزيع المسؤوليات والحقوق على أصحاب العلاقة، وتضع القواعد والإجراءات المطلوبة لاتخاذ القرارات.
على أساس ما سبق، نجد أن المخرجات الرئيسة لتنفيذ عملية حوكمة المؤسسات هي القرارات؛ أي أن الحرص على سلامة حوكمة المؤسسات يؤدي إلى سلامة القرارات التي تتخذها، التي يفترض أن تكون في مصلحة المؤسسة المعنية، وأن تسهم في تنمية المجتمع من حولها أيضا. ولا شك أننا عندما نتحدث عن حوكمة المؤسسات، العاملة في شتى القطاعات، وفي مختلف المجالات، وتوجهها نحو اتخاذ قرارات سليمة، والعمل على تنفيذها بإخلاص وحكمة ونجاح، فنحن نتحدث عن تنمية الأمة الحاضنة لهذه المؤسسات بمختلف جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
وكي تستطيع حوكمة مؤسسة إعطاء القرارات السليمة المأمولة، هناك متطلبات ترتبط بأبعاد مختلفة، ينبغي أخذها في الاعتبار؛ وبين هذه الأبعاد البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد المعرفي، إضافة إلى أبعاد أخرى مختلفة. وموضوعنا هنا هو البعد المعرفي، الذي يتداخل مع كل الأبعاد، ويسعى إلى إمداد حوكمة المؤسسة بالحقائق والأفكار التي تحتاج إليها لأداء مهمتها في اتخاذ القرارات السليمة.
ولعله يمكن النظر إلى البعد المعرفي من خلال ثلاثة محاور رئيسة هي: محور التعرف على الأمر الواقع للمؤسسة ومخرجاتها والبيئة المحيطة بها؛ ثم محور التعرف على حالة المؤسسات الأخرى التي تقدم مخرجات مماثلة سواء على المستوى المحلي أو المستوى الدولي؛ وأخيرا محور البحث في تحديات المستقبل وكيفية التعامل معها، بما في ذلك تحديات الارتقاء بدور المؤسسة المعنية، وقدرتها على منافسة المؤسسات المثيلة، وإسهامها في تنمية المجتمع.
في إطار المحور الأول، يتضمن التعرف على الأمر الواقع للمؤسسة والنظر في معايير أدائها الرئيسة. ولعل أبرز هذه المعايير ثلاثة. معيار الفاعلية الذي يقيس مدى تحقيق المؤسسة متطلبات الإنجاز التي تتطلع إليها. ففي مؤسسة لتقديم منتجات معينة، يرتبط هذا المعيار بحجم الإنتاج وبتحقيق مواصفات المنتجات، تبعا للمتطلبات. ويأتي بعد ذلك معيار الكفاءة، الذي يسعى إلى المحافظة على الفاعلية ولكن مع تخفيض التكاليف، حيث يسعى إلى الحد من الأعمال والإجراءات غير المفيدة وتوفير نفقاتها. ثم يبرز معيار الرشاقة الذي يعمل على تنفيذ المتطلبات ليس بفاعلية كبيرة وتكاليف أقل فقط، بل بسرعة أكبر أيضا، تقضي بالحد من ترهل المؤسسات وبطء الإجراءات التي تؤديها.
ويتضمن المحور الثاني، الخاص بالتعرف على حالة المؤسسات المحلية والدولية التي تقدم مخرجات مماثلة، الاستفادة من خبرات الآخرين في اتخاذ القرارات المناسبة للتطوير. ويأتي المحور الثالث الخاص بتحديات المستقبل ليخطو خطوة أخرى إلى الأمام وينظر ليس فقط إلى احتمالات التحسين، بل إلى إمكانات التجديد من خلال إبداعات وابتكارات في المنتجات أو المنجزات. فالتجديد يعطي انطلاقة جديدة للمؤسسة المعنية، حيث تستطيع تقديم معطيات رائدة، تفتح للمؤسسة المعنية آفاقا جديدة تستفيد منها، وتستطيع من خلالها تقديم إسهامات أفضل في التنمية، وفي تعزيز استدامتها.
تحتاج حوكمة المؤسسات إلى رافد معرفي يهتم بالمحاور المعرفية الثلاثة سابقة الذكر. وكثيرا ما نجد دورا مهما للشركات الاستشارية الأجنبية في هذا المجال، وذلك من منطلق اطلاعها الواسع على ما يجري في العالم أو في البلدان التي تنتمي إليها، ومعرفتها بعوامل نجاح المؤسسات في مختلف المجالات. وغالبا ما تبرز هنا مشكلتان: المشكلة الأولى هي افتقار الشركات الاستشارية إلى الخبرة الكافية في خصائص الوضع الراهن للمؤسسات المحلية المعنية، حيث تتجلى أهمية هذا الأمر في أنه يمثل قاعدة انطلاق قرارات التطوير المنشودة؛ أما الثانية فهي ضعف الرافد المعرفي الذاتي في كثير من المؤسسات، ما يضعف أي شراكة معرفية مأمولة مع الجهات الاستشارية الخارجية.
تحتاج حوكمة المؤسسات، على اختلاف قطاعاتها ومجالات عملها، إلى روافد معرفية ذاتية تهتم برؤية واسعة وعميقة لوضعها الراهن، ولحالة المؤسسات المماثلة حول العالم، ولآفاق التطوير المستقبلي والإبداع والابتكار فيه. وقد تتمثل هذه الروافد بوجود وحدة للدراسات والبحوث في كل مؤسسة تسعى إلى إنارة طريق المستقبل أمامها. ولا بأس من زيادة إنارة هذا الطريق من خلال الشركات الاستشارية عند الحاجة، حيث سيكون ذلك معززا بشراكة معرفية مدروسة من جانب الروافد الذاتية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي